ويليام فاف/الاتحاد

تستند السياسة الخارجية لإدارة الرئيس جورج بوش في سعيها المعلن إلى دعم الديمقراطية وتعزيزها على الافتراض القائل بأن الديمقراطية هي قيمة طبيعية في الإنسان، وبأن المجتمعات غير الديمقراطية ما هي إلا كيانات أخطأتها رياح التقدم وظلت حبيسة عصور سحيقة من الماضي• ورغم تضافر مجموعة من العوامل التي تسهم في صياغة قرارات السياسة الخارجية للإدارة الأميركية والمرتبطة بإمدادات الطاقة، والأمن الجيو سياسي، ومصالح الشركات الكبرى، ثم الاعتبارات السياسية الداخلية••• إلا أن الرئيس بوش وفريقه يصرون على أن ما يتحكم في السياسية الخارجية الأميركية إنما هو مبدأ نشر الديمقراطية وتعزيز حضورها في مناطق العالم المختلفة، بما يعني ذلك من ’’دعم لمسيرة الحرية’’ وفقا لما عبر عنه الرئيس بوش نفسه في أحد خطاباته السابقة•

بيد أن الفرضية المتفائلة التي يتشبث بها بوش وفريقه والتي تبنى على معاني فاضلة ومعايير أخلاقية نبيلة في الحكم ترتكز على أساس هش سرعان ما يتداعى• وقد أشار إلى ذلك الدبلوماسي والمؤرخ الأميركي جورج كنعان قبيل انقضاء حياته المديدة عندما كتب ’’لكي يكون هناك حكم شعبي يتعين على الناس أن يفهموا أولا ماذا يعني ذلك، وأن يبدوا رغبة أكيدة واستعدادا راسخا للتضحية من أجل الحصول عليه’’• وأضاف الدبلوماسي بأنه سيكون هناك دائما عدد محدود من الديمقراطيات في العالم، وهو ما ثبتت صحته بالفعل• ثم استطرد بواقعية شديدة تخلو من أية رومانسية سياسية ’’إن على المجتمعات الأخرى (غير الديمقراطية) أن تُترك لما تمليه عليها العادات والتقاليد، وكل ما يمكننا أن نطلبه من الزمرة الحاكمة في تلك المجتمعات هو التقيد بالحد الأدنى من قواعد السلوك الدبلوماسي المتحضر في علاقاتها الثنائية معنا، أو مع باقي المجتمع الدولي’’• وإذا كانت الديمقراطية حسب هذا التحليل ليست قيمة طبيعية متأصلة في جميع المجتمعات البشرية، فإنها قد تؤدي في بعض الأحيان إلى كوارث كبيرة، وهو ما عبر عنه الرئيس الأميركي الثاني جون أدامز عندما قال ’’لا توجد ديمقراطية لم تقدم على الانتحار’’• واللافت حقا أن ذلك لا ينطبق فقط على الديمقراطيات الوليدة كالتي نشأت مؤخرا في أوكرانيا وجورجيا، بل حتى على الديمقراطية الأميركية نفسها•

فمن جهة بدأت مسيرة بوش من أجل الحرية في العراق التي كان يفترض بها أن تقدم نموذجا للتحول الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط تخطو خطوات عرجاء ومتعثرة لا تبعث على التفاؤل• وبنفس الطريقة تعاني الديمقراطية الوليدة في جورجيا وأوكرانيا من مشاكل جمة حيث احتدم الصراع على السلطة والثروة بين الشخصيات والتيارات المختلفة مهددة بتقويض التطلعات التي تتوق لها شعوب تلك الدول• وفي الحقيقة لم تكن ’’الثورات’’ التي عمت تلك البلدان سوى عملية انتخابات أجريت نتيجة ضغوط شعبية أخذت شكل المظاهرات العارمة ضد الأنظمة القائمة وأقيمت تحت مراقبة دولية حاملة إلى سدة الحكم شخصيات سياسية موالية للولايات المتحدة• والجدير بالذكر أن الحركات الشعبية التي كانت تدعو لتنظيم الانتخابات قادها مجموعة من النشطاء الشباب الذين تدربوا في أميركا وحصلوا على الدعم والتمويل من قبل حكومة الولايات المتحدة، أو من المنظمات الأميركية غير الحكومية المشجعة لإرساء الديمقراطية• ومع ذلك مازالت السلطة في تلك البلدان في أيدي التحالفات الضيقة التي تسيطر على مقدرات المجتمع ولو على نحو مستتر، ومازالت الأموال العمومية تصب في أيدي فئات قليلة نافذة، حيث ألفى في النهاية دعاة الديمقراطية أنفسهم مهمشين يعانون من الإبعاد والإقصاء•

لذا فإن الديمقراطية، وخلافا للرأي السائد في أروقة الإدارة الأميركية، ليست قيمة طبيعية متأصلة في المجتمعات البشرية، بل هي سيرورة من القيم المكتسبة الناتجة عن التجربة التاريخية والتأمل الفلسفي، وهي لذلك يصعب نيلها ويستعصي الحفاظ عليها• فالديمقراطية لا تقتصر على تنظيم انتخابات حرة، بل هي في جوهرها سلسلة من التطورات التي تطال المجتمع المدني وتجعله قادرا على تقبل بعض المفاهيم الجديدة مثل حكم الأغلبية والتداول على السلطة، وتدبير الاختلاف السياسي والتعايش معه بالطرق السلمية••• بيد أن هذه الثقافة الديمقراطية لا تتشكل عبر برنامج سياسي مستورد، بل هي نتيجة تراكم التجارب التاريخية والتربية الديمقراطية في المجتمع• وتعكس الفكرة القائلة بأن الديمقراطية متأصلة في المجتمعات البشرية تلك الثقة الساذجة التي وضعها عصر النهضة الأوروبية في التقدم الحتمي للمجتمعات البشرية، وهي الثقة ذاتها التي ألهمت الثورتين الفرنسية والأميركية•

فقد أدان سقراط في العهود الغابرة الديمقراطية باعتبارها هشة وضعيفة أمام الديماغوجية والفساد• ومن جانبهما فإن المفكر الفرنسي مونتيسكيو والفيلسوف الألماني هيجل، في القرنين الثامن والتاسع عشر، أدانا الديمقراطية بوصفها جزءا من الماضي وغير قادرة على توفير الاستقرار في المجتمع• ولم يبق من المفكرين غير المتأثرين بأفكار جون جاك روسو المثالية حول الفضائل الطبيعية للإنسان ونزوعه الفطري نحو الحرية والديمقراطية، إلا نفر قليل• وللأسف فأبناء روسو هؤلاء يضمون معظم الشخصيات المتنفذة اليوم في الولايات المتحدة، بما في ذلك إدارة الرئيس بوش ومراكز البحث التي يسيطر عليها المحافظون الجدد، بل وحتى بعض المفكرين الليبراليين في الجامعات الأميركية• ولئن كان بعض المنتقدين يربطون بين حملة إدارة بوش لدعم الديمقراطية ورغبة وكالة المخابرات المركزية في تنصيب وكلاء لها في منطقة الشرق الأوسط وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، إلا أنهم يعجزون عن استشراف فشل هذا المشروع لأنه في الوقت الذي يسعى فيه إلى خلخلة الوضع الراهـــن في تلك البلدان، فإنه غير قادر على استبداله بثقافة ديمقراطية مستديمة•