فوزي زيدان /المستقبل

زلزل الانفجار المروع الذي أودى بحياة الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه شهداء لبنان والمنطقة العربية، ووصلت ارتجاجاته إلى جميع أنحاء العالم، لما كان للرجل من زعامة وطنية وعلاقات عربية ودولية وثيقة. وثار يومها الشعب اللبناني، مطالباً بمعرفة الحقيقة والثأر من القتلة المجرمين. وأشار خلال تحركه الغاضب، بأصابع الاتهام نحو القيادتين السياسيتين في لبنان وسوريا وقادة الأجهزة الأمنية فيهما. لما عانى منهم الرئيس الشهيد خلال مسيرته السياسية، من المناكفات والمضايقات، وقوفهم عائقاً أمام تنفيذ مشاريعه الاصلاحية في الادارة والاقتصاد والمالية العامة، التي تعهد بها امام مؤتمر باريس 2 ـ عدا عن التشكيك الدائم في مواقفه الوطنية والقومية.

كانت سوريا يوم اغتيال الرئيس الشهيد، تسيطر على الأمن في لبنان، وكانت استخباراتها قوية ومنتشرة في جميع أرجاء الوطن، وطال نفوذها القوي والمؤثر الاجهزة الأمنية اللبنانية، بحيث كانت تعمل تحت اشرافها المباشر. ومع هذا، لم يتحرك الجهاز الامني السوري للتحقيق في جريمة الاغتيال، لابعاد الشبهة عنه واثبات براءته، كما تدعي باستمرار القيادة السورية. بل تعامل معها وكأنها جريمة عادية، وليس ارهابية طالت أكبر شخصية وطنية لبنانية، وهذا ما دفع باللبنانيين إلى التشبث أكثر في توجيه الاتهام إلى سوريا.

وأعتقد اللبنانيون، أنهم سيعرفون الحقيقة الكاملة عن هذه العملية الاجرامية، بعد وقت قصير من بدء عمل لجنة التحقيق الدولية، التي تألفت بموجب القرار 1595 الصادر عن مجلس الامن، نظراً للكفاءة والنزاهة التي يتمتع بهما رئيسها القاضي ديتليف ميليس، ودعم المجتمع الدولي لها، وتعاون الحكومة اللبنانية معها، وثقة اللبنانيين بها وخصوصاً ال الحريري. واعتقادهم ان هكذا جريمة، لا بد أن يكون قد شارك بها أناس كثيرون، بحيث تستطيع اللجنة من اكتشاف خيط من خيوط المؤامرة في وقت وجيز، ويتداعى بعد ذلك جميع أركانها.

كان تقدير لجنة التحقيق الدولي بمثابة تحليل للأوضاع السياسية التي سبقت عملية الاغتيال، وسرد للجريمة ومسرحها، والتقنيات العالية التي استعملت بها، واعتمد على افادات الكثيرين من الشهود، ومن ضمنهم شاهدين سوريين رئيسيين، وهما زهير الصديق الذي ثبت كذبه لاحقاً، والشاهد المقنع هسام هسام ويثير موضوعه تساؤلات عدة. لقد ورد في الفقرة 96 من النسخة الأولى من التقرير أسماء قادة سوريين كباراً، متورطين في عملية الاغتيال، وهم ماهر الاسد وآصف شوكت وبهجت سليمان وحسن خليل، وما لبث ان حذفت هذه الأسماء من النسخة التي سلمت إلى اعضاء مجلس الامن، بتوصية من الامين العام كوفي انان، لان تهمة الاشتباه بهم وردت في إفادة شاهد واحد، وتبين لاحقاً انه الشاهد المقنع. وتساءلنا عند ظهور الشاهد هسام في دمشق، لماذا ترك هذا الشاهد طليقاً وحراً، دون حماية أو مراقبة من قبل السلطات اللبنانية، خصوصاً انه شاهد أساسي في جريمة الاغتيال؟ مع معرفة الجميع بأن الاستخبارات السورية لا تزال تعمل بقوة على الساحة اللبنانية. وهل كان الشاهد المذكور مدسوساً على اللجنة؟ وإذا كان الامر كذلك، فما هي مصلحة النظام السوري في تزويد اللجنة بمعلومات تشير الى تورط بعض أركانه الرئيسيين في الجريمة، وعطفاً على ذلك، هل توجه الشاهد إلى دمشق بارادته، ام تعرض إلى التهديد والخطف من قبل اجهزة المخابرات؟ وهل افادته الأولى هي الصحيحة؟ وهل تسلمه سوريا إلى لجنة التحقيق الدولية عندما تطلبه، لاعادة التحقيق معه؟ وهل تقبل ان يحقق معه، المحقق العدلي القاضي الياس عيد؟ وهل تقبل بتوقيفه في لبنان، وتقديمه الى المحاكمة، لكشف الحقيقة الكامنة وراء تراجعه عن افادته؟ أو محاكمته بتهمة الكذب وتضليل التحقيق؟ أم انها ستتمسك بالمعاهدة القضائية المبرمة بين البلدين، التي تجيز لسلطاتها القضائية محاكمة السوريين، الذين يرتكبون جرائم في لبنان؟ وهل معارضة حلفاؤها في لبنان من انشاء محكمة دولية، سببه الخوف من كشف حقيقة تورطها في الجريمة؟ أظهرت الوقائع ان السلطات السورية لم تتعاون مع اللجنة بصدقية، وبقيت تماطل وتسعى الى كسب المزيد من الوقت، أملاً في تأمين تسوية لها تخرجها من هذه الازمة، حتى اقتربت المدة الممددة للجنة من النفاذ. وبعد تدخلات عربية ودولية، ربما من ضمن صفقة! سمحت سوريا باستجواب بعض المشتبه فيهم من القادة الامنيين، ووضعت شروطاً خاصة لذلك، فيما يختص بمدة ومكان الاستجواب وعدم التعرض للمشتبه فيهم، وتعديل لائحة أسماء الشهود وحذف القادة الكبار منها.

وتوالت الاحداث، وأعلن القاضي ميليس أنه لا ينوي تجديد عقده مع الامم المتحدة، ويريد العودة الى وطنه، لأسباب خاصة، منها توليه الشهر القادم منصب المدعي العام في مدينة برلين. وبدأت بعض التساولات حول هذا الموضوع، ومنها: هل من المعقول ان يترك القاضي ميليس هذه القضية المهمة الى غيره من القضاة. وقد اوشك على كشف اسرارها؟ وهل الانكفاء بحجة الاسباب الخاصة، أهم من تسجيله انتصار عالمي، وهو كشف حقيقة اكبر جريمة ارهابية في التاريخ الحديث؟ وهل تخليه سببه خيبة الامل والتقصير المهني كما يدعي حلفاء سوريا في لبنان، وهو المشهود له بالكفاءة والخبرة؟ أم ان القضية اكبر من ذلك، وتعود إلى معارضته التدخلات الخارجية لتبرئة النظام السوري من جريمة قتل الرئيس الشهيد؟ واصراره على معرفة الحقيقة كاملة، ومعارضته الاكتفاء بكشف جزء منها فقط؟ وقد نفى المسؤول في وزارة الخارجية الاميركية البرتو فرنانديز، وجود صفقة بينهم وبين السوريين، ولفت الى ان "ربط السوريين بين مسار التحقيق في جريمة الاغتيال بالعلاقات الاميركية السورية هو امر غير واقعي يفتقر كلياً الى الصدقية والجدية بين امرين منفصلين تماماً. وأن سوريا تحاول أن توهم العالم بأن مشكلتها هي مع اميركا فقط، فيما واقع الامر غير ذلك تماماً. ان مشكلة نظامها هو مع المجتمع الدولي برمته".

وكان الرئيس فؤاد السنيورة أعلن أيضاً عند افتتاحه معرض الكتاب العربي، ان اللبنانيين لن يساوموا على دم الحريري، وأنهم سيواصلون العمل لمعرفة الحقيقة الكاملة عن جريمة الاغتيال.

اعتبرت اللجنة بخصوص الشاهد هسام هسام، ان تراجعه عن افادته لم يؤثر على التحقيق، وتثبت المعلومات التي في حوزتها الى تعرض عائلته، قبل مغادرته الى دمشق، لضغوط وتهديدات. وأثبتت التحقيقات انه زود اصدقاءه بمعلومات مماثلة لتلك التي قدمها إلى اللجنة، وتعتبر ان السلطات السورية حركته من اجل التشكيك في التحقيق.

واعتبرت اللجنة ان التعاون السوري كان بطيئاً معها، وطالبها بتعاون كامل وغير مشروط في المرحلة المقبلة من تحقيقاتها حتى يتم تأكيد كل جوانب القضية، ويظهر مضمون التقرير عدم تقيد الحكومة السورية بالقرار الدولي 1636. وكان اللافت افادة اثنين من المشبته فيهم من الضباط السوريين ان جميع الوثائق الاستخبارية المتعلقة بمرحلة الوجود السوري في لبنان احرقت. علماً انه من غير المعقول ان يتم حرق هذه الوثائق بعد مدة قصيرة من خروج الجيش السوري، والأغلب انها اخفيت لاحتوائها على ادلة تثبت تورط اجهزة الاستخبارات في جريمة الاغتيال.

أما بشأن احتمال طلب اللجنة من سوريا توقيف المشتبه فيهم من القادة الامنيين السوريين، فجاء الرد الأولي على لسان رئيس تحرير صحيفة "البعث" الوثيق الصلة باللجهزة الامنية السورية، حيث صرح بأن طلب توقيف اي مسؤولين سوريين، يفترض ان يحال الى سوريا وبدوره تحيله الى لجنة التحقيق السورية، وهي المخولة بطلب الادلة والقرائن ومناقشتها، وأن تقرير ميليس لا يشير إلى أي دليل جنائي يتطلب توقيف الشهود السوريين. وهذا يشير إلى احتمال المواجهة القريبة بين اللجنة والسلطات السورية.

وطالب الامين العام مساعدة الحكومة اللبنانية على تحديد طبيعة المساعدة الدولية المطلوبة، في شأن انشاء محكمة ذات طابع دولي. وسمح للجنة بناء على طلب الحكومة اللبنانية، ان تقدم مساعدة تقنية الى السلطات اللبنانية في ما يتعلق بالتحقيقات التي تجريها الاخيرة في الهجمات الارهابية المرتكبة في لبنان منذ 1/10/2004، كما طالب الامين العام ان يقدم بالتشاور مع الحكومة اللبنانية توصيات لتوسيع مهمة اللجنة كي تشمل التحقيقات الاعتداءات الأخرى. وان عدم البت في طلب الحكومة اللبنانية بانشاء محكمة ذات طابع دولي، وتوسيع عمل اللجنة، يترك الباب مفتوحاً امام التوافق على صيغة مقبولة لدى جميع الافرقاء في لبنان، وخصوصاً الفريق الشيعي.

ويبقى السؤال: هل تلتزم السلطة السورية بالقرار الجديد، وتتعاون مع لجنة التحقيق في الكشف عن الحقيقة الكاملة لجريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه؟ علماً أن هذا التعاون يؤدي إلى ادانتها، استناداً الى ما يملكه المحققون الدوليون من أدلة واثباتات تشير إلى تورط اجهزتها الامنية في هذه الجريمة. أو انها ستعمل على إطالة التحقيق الدولي أو تحويل مساره، بما يؤدي إلى تعطيله أو نسفه، خصوصاً بعد فشلها في عقد صفقة مع المجتمع الدولي تبعد عنها شبهة الاتهام؟

الوضع خطير جدا، والساحة اللبنانية مفتوحة على جميع الاحتمالات. والمطلوب من الحكومة اللبنانية لمواجهة التداعيات المحتملة، القيام باجراءات امنية جذرية، ومن القيادات الروحية والسياسية تحصين الوحدة الوطنية.

حمى الله لبنان واللبنانيين.