النهار ، سركيس نعوم

في الأوساط السياسية والشعبية السنية والمسيحية والدرزية، وعذراً لاستعمال هذه التعابير علماً ان الواقع القائم في لبنان يبرره بل يحتم الانطلاق منه في أي بحث وطني عن حل للمشكلات المستعصية والمزمنة في البلاد، اعتقاد ان المجتمع الشيعي اللبناني في غالبيته الساحقة يسير وراء أكبر فريقين يمثلانه في هذه المرحلة هما "حزب الله" وحركة "أمل". أي يتبنى شعاراتهما سواء الداخلية او الاقليمية والخارجية. ومن هذه الشعارات ان الاولوية عندهما هي للتحالف مع سوريا وللوفاء لها هي التي امنت لمقاومة الاحتلال الاسرائيلي وخصوصاً بعدما صارت اسلامية الحماية والدعم المتنوع الأمر الذي مكنها من تحرير الاراضي اللبنانية المحتلة التي صادف ان معظمها "شيعي" وعذراً مرة ثانية لهذا التعبير. وهي التي مكنت الحزبين من اظهار القوة الشيعية العددية والسياسية والعسكرية وتالياً من توظيفها لاستحقاق دور وطني ومعه دور قومي واسلامي ساهمت الصيغ السياسية – الوطنية التي سادت في لبنان قبل استقلاله ومنذ استقلاله وحتى حرب عام 1975 وربما حتى نهاية هذه الحرب في تغييبه. ومن هذه الشعارات أيضاً ان الاولوية يجب ان تعطى للقضية الاسلامية والقومية الاساسية وهي الصراع مع الصهيونية العالمية الممثلة باسرائيل ومع حلفائها في العالم وفي مقدمهم الولايات المتحدة. ومن هذه الشعارات ثالثاً ان الاولوية يجب ان تعطى لمساعدة الجمهورية الاسلامية الايرانية التي كان لها الدور الأبرز في تأسيس "حزب الله" ومقاومته الاسلامية هي التي تخوض حرباً شرسة ضد الغرب مجتمعاً بل ضد المجتمع الدولي واداته الاولى في المنطقة أي اسرائيل وان كان ذلك على حساب لبنان وسيادته واستقراره ووجوده بل وديمومة هذا الوجود.

هل الاعتقاد المفصل أعلاه بكل تشعباته ينطبق على الواقع الشيعي في لبنان اليوم؟

لا نشك في انه ينطوي على عناصر تنطبق على هذا الواقع. لكن من الخطأ والظلم للشيعة وللبنان اعتباره منطبقاً عليه مئة في المئة. ذلك ان انطباقاً بهذه النسبة الكاملة لا بد ان يعني ان الشيعة غير متمسكين بلبنان وبانتمائهم اليه وانهم مستعدون للعمل من أجل اقامة لبنان آخر لا علاقة له بلبنان الرسالة والعيش المشترك والديموقراطية والحرية والسيادة والاستقلال. والذين يعرفون الشيعة ويتابعون مسيرتهم السياسية والوطنية والقومية ولاحقاً الاسلامية يعرفون ان لبنانيتهم لا غبار عليها، علماً انهم لا يحتاجون الى شهادتي في هذا الأمر أو الى اي شهادة اخرى، ففيه يستطيعون وبعد حرمان سياسي واجتماعي واقتصادي وانمائي قديم، العيش بكرامة وحرية مع اشقائهم في المواطنية اللبنانية، لا بل انهم مقتنعون بأن لا مكان آمناً ومستقراً لهم خارج لبنان اي في محيطه العربي والاسلامي بخلاف جهات لبنانية اخرى قد يجمعها بالخارج الذي هو ليس جزءاً من هذا المحيط الكثير من الامور بل من القيم. والذين يعرفون الشيعة ويتابعون مسيرتهم المشار اليها عن قرب يعرفون ان حيوية المجتمع الشيعي التي قد تقابلها في المرحلة الراهنة حيوية اخرى داخل المجتمع السني فتحت الباب امام مناقشات داخلية وخصوصاً داخل "حزب الله" وحركة "امل" وخصوصاً حول موضوع "اللبنانية" الشيعية. وفي هذه المناقشات يطالب البعض بخطاب اكثر لبنانية أو بالأحرى بزيادة الجرعة اللبنانية في الخطاب الشيعي السياسي وغير السياسي. ويتساءل البعض الآخر عن العلاقة الشيعية – السورية على نحو الاجمال التي تعتبر الطوائف اللبنانية الأخرى من مسيحية واسلامية انها لمصلحة سوريا وعلى حساب لبنان. وفي المناقشات اياها يرد "المسؤولون" عن المجتمع الشيعي وفيه بتأكيد اللبنانية وبتأكيد نهائية الوطن اللبناني بل الكيان اللبناني. ويردون ايضاً بتأكيد الوفاء لسوريا ولكن ليس على حساب لبنان ويدعون المطالبين والمتسائلين الى وعي حقيقة اساسية، قد تكون مُرة هي انهم ليسوا في سوريا ولكن سوريا عندهم في لبنان هذا واقع لا يمكن معالجته بالتهور والتسرع والحقد والانتقام. ويردون ثالثاً بالاشارة الى ان سوريا التي تخوض مواجهة شرسة مع المجتمع الدولي سواء من أجل نظامها او من اجل دورها او دفاعاً عن المنطقة وخط "الممانعة" فيها قد لا تكون "مبسوطة" بالطريقة الحذرة على وضوحها التي يتحرك بها في لبنان "حزب الله" وحركة "أمل" ربما لانها وفي "حشرتها" المعروفة تتمنى منهما "الأكثر".

ويردون رابعاً بالقول ان التفاهم مع الطوائف اللبنانية الاخرى التي يجمع بعضها تحالف سياسي معين ويجمع هذا التحالف مع قوى اخرى قرارات دولية معينة وسقف سياسي معروف كان ممكناً لو تصرف الفريقان الآخران بحكمة أكبر وبترو أكبر ولو لم يستعجلا حل المشكلات القائمة مع سوريا دفعة واحدة الأمر الذي جعلها تقرر خوض معركة شرسة وربما على طريقة "يا قاتل يا مقتول" في لبنان والذي جعلها ايضاً لا تتساهل مع أي حكمة او ابتعاد عن التهور (او الالتزام) قد يمارسهما او يمارس احدهما حلفاؤها اللبنانيون.

ما مدى انطباق الكلام الشيعي الواضح المفصل اعلاه على الواقع؟

لا يمكن انكار انه متداول داخل المجتمع الشيعي وداخل "الحزبين"الشيعيين المستأثرين أولا عن اقتناع وتالياً عن عدم تساهل مع اصحاب النظرة المختلفة بجماهير الشيعة في لبنان. ولا يمكن انكار ضرورة الحوار الجدي بين "المجتمع الشيعي" وسائر المجتمعات الطائفية والمذهبية الأخرى في البلاد سواء من داخل الحكومة او مع القوى غير المشاركة فيها من خارجها فذلك وحده كفيل بتمكين لبنان من عدم الوقوع في "المهوار" الذي يسير الجميع اليه علموا ذلك أم لم يعلموه. لكن الحوار الناجع هو الذي تسيره الصراحة والوضوح وغياب "الاجندات" أو المخططات المضمرة أي غير المعلنة. وهو الذي يطمئن الجميع، وهو الذي لا يدفع الشرعية الدولية الى العودة الى سياسة اهمال لبنان أو التخلي عنه لأنه وشعوبه حصدوا نتائج هذاالاهمال او التخلي على مدى عقود. اما القضايا التي يعتبرها الشيعة ضمانات والآخرون مشكلات لا بد من حلها وان معالجتها تكون بالحوار الصادق وقد وافق المجتمع الدولي رغم قراره 1559 على حلها بهذه الطريقة. وفي اختصار لا طائفة او مذهب في لبنان يستطيع ضمان أمنه ووجوده ودوره في لبنان بذاته. لقد جرب كثيرون ذلك في الماضي وفشلوا. ولا طائفة او مذهب يستطيع ان يضمن أمنه ووجوده ودوره بواسطة الخارج شقيقاً كان أو صديقاً أو عدواً. الضمانات يقدمها اللبنانيون بعضهم لبعض ومن شأن ذلك السماح بقيام دولة لبنان التي هي دولة المجتمع وبقيامها بمهماتها.

في اختصار كان المسيحيون في الماضي المشكلة في لبنان علماً انه كان في امكانهم وخصوصاً في العقود التي سبقت الحروب ان يكونوا الحل أو المحرك في اتجاهه، وفي الماضي ايضاً تحول المسلمون عموماً وخصوصاً ابان الشق اللبناني – الفلسطيني من الحرب هم المشكلة. في حين انه كان يمكنهم ان يكونوا الحل. وما يخشاه اللبنانيون اليوم هو ان يتحوّل الشيعة مشكلة لبنان في هذه المرحلة لأن ذلك يفجره مثلما فجرت "المشكلات" السابقة المذكورة الحروب التي لا يتمنى اي لبناني عودتها. وما يتمنونه ان يتحولوا حلاً للبنان او دافعاً اساسياً في اتجاه الحل. وتحول كهذا، يرحب به الشيعة على وجه الاجمال لكنه سيبقى معرضاً للفشل اذا لم تشارك مع الشيعة الطوائف والمذاهب الأخرى في البلاد.