الحياة/ ياسين الحاج صالح

في مصر، ألّب الحزب الحاكم وأجهزة الأمن المرتبطة بالنظام بلطجية وأصحاب سوابق وجانحين ضد جمهور المصوتين المحتملين للإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. كان الاعتداء على الجمهور الأعزل يتم تحت أنظار رجال الأجهزة التي يفترض أن تحافظ على الأمن والنظام. واللافت أن الأجهزة هذه فضلت «حرباً بالوكالة» على حرب أصيلة تشنها هي مباشرة. في ذلك ما يجنبها، وهي معروفة العنوان ومعرضة لمراقبة الإعلام أكثر من غيرها، التورط مباشرة في أفعال غير مشروعة ومضادة للشرعية. وفيه ايضا ما يتيح لها القيام بدور الإطفائي. لكن لعله فيه «حبة» حرج تشير إلى أن شيئا من «ضمير» فكرة الدولة ما زال حيا. والأرجح أن هذا الشيء ضئيل جدا، مادام البوليس لم يبذل عناية كبيرة لحجب تواطؤه، ومادام جميع المصريين يعرفون أن أعمال البلطجة كانت تتم برعاية وتشجيع منه، ومادام البوليس يعرف أن المصريين يعرفون أنه منحاز لطرف بعينه.

مثل ذلك كان قد جرى في مناسبات عديدة في سورية خلال عام 2005 الآفل. في مواجهة اكثر من اعتصام احتجاجي، دعا إليه نشطاء سياسيون وحقوقيون معارضون، كان يتدخل محازبون بعثيون للاعتداء على المعتصمين وتفريقهم. هنا أيضا، تحت عين عناصر حفظ النظام وأجهزة الأمن. وقع ذلك في 10 آذار (مارس) الماضي في اعتصام احتجاجي ضد حالة الطوارئ، ووقع في آخر أيار (مايو) في اعتصام يحتج على اعتقال أعضاء منتدى النقاش الوحيد الذي كان باقيا في دمشق. لا حاجة إلى القول إن المعتصمين السوريين، مثل المصوتين المصريين، كانوا مسالمين عزلا.

ليست هذه السياسة التي تقوم على مصادرة الحزب الحاكم للدولة ابتكارا مصريا أو سوريا، فقد عرفت البلدان المصنعة نفسها ما يشبهها ضد الحركة العمالية والنشطاء اليساريين حتى قبل الحرب العالمية الثانية. لكن مخاطرها على السلم الأهلي أكبر في بلداننا العربية، حيث التعدد الديني والإثني والمذهبي من جهة، وحيث ضعف الدولة (كفكرة لا كجهاز) مفتوح على الدوام على مخاطر كيانية. هذا يجعل من تأليب شارع ضد شارع سياسة خطيرة مضادة للدولة والمجتمع، وللسياسة ذاتها. وهي بعد أكثر خطرا في المشرق الشامي والعراقي مما في مصر، نظرا لكون الكيانات المشرقية أقل رسوخا في التاريخ، والمجتمعات أقل اندماجا.

«الشارع» غير عقلاني، يخضع لتأثير الغوغائيين، وتحركه العلاقات المحاسيبية وروابط التبعية الشخصية أو الاستزلام. هذا ينطبق بالخصوص على الشارع الوكيل، الذي يراهن من يحركونه على عنفه غير الشرعي وعلى قلة عقلانيته. إن زمام سياسة شارع ضد شارع قد ينفلت من أيدي مجربيها، ويجري في شوارع فرعية وزواريب أهلية، مع ما نعلمه من الكلفة الإنسانية والسياسية والاقتصادية العالية للنزاعات الأهلية واستحالة كسبها.

المضمون الجوهري للسياسة هذه هو نقل عبء مواجهة التوترات والاحتجاجات المحتملة على سياسات رسمية من كاهل سلطة الدولة إلى داخل المجتمع، ما يتسبب في زيادة الطلب الاجتماعي على الاستقرار والأمن، أي ما يجعل الشكل القسري للسلطة هذه حكما وحلا.

ونميل إلى الاعتقاد بأن ترك الدولة العنف يسيل في الشارع، يؤشر على طور تفسخ نموذج الدولة الوطنية الشعبوية التي حكمت بلادا عربية أساسية منذ خمسينات القرن العشرين أو ستيناته، دون أن يكون التحول إلى نموذج جديد للدولة والسياسة سهلا في غياب قوى اجتماعية وسياسية فعالة تشرف على التحول نحو النموذج هذا. إذا صح ذلك فإنه نذير مقلق بمرحلة من الاضطراب واللااستقرار السياسي. وهو ما يتعين أخذه بالحسبان من قبل المعارضين والديموقراطيين للحد من آلام ولادة النموذج الجديد، إن استعرنا لغة ماركس، ومنحنا بعض الثقة لما فيه من تاريخانية.

والحال، ترتسم سياستان لمواجهة تحلل الشعبوية والسياسات الانتحارية المرتبطة بها: سياسة تقوية العناصر العقلانية والعمومية في الدولة إزاء القوى المتطرفة والمصالح الخصوصية المتحصنة بها أو المحتلة لها؛ وسياسة أخرى قد تكون أكثر جذرية، تنفض يدها بالكامل من نموذج الدولة القائم، وتميل إلى أن الدولة الديموقراطية المأمولة ليست هي الدولة الشعبوية القائمة بعد إصلاحها. باللغة الماركسية، هاتان سياسة إصلاحية وسياسة ثورية. الجمع بينهما لا يثمر غير سياسة متهافتة. السياسة الإصلاحية، بالمقابل، سجلت إخفاقا وراء إخفاق في سورية ومصر وغيرهما، فيما لا مجال لسياسة جذرية في ظل ما أشرنا إليه من ضعف القوى الاجتماعية المنظمة.

لا يبدو أن ثمة حلا لهذه المعضلة في الأفق الراهن. والقول إن مشكلة اجتماعية أو سياسية بلا حل، يعني أن الحل الوحيد هو الانحلال. ويعزز من احتمال الحل الانحلالي أن «إعادة إنتاج» السلطة لنفسها عبر إنتاج الانقسام الاجتماعي الذي يزيد الطلب على سلطة الإكراه التي تدعم الانقسام الاجتماعي... وهكذا، لم يعد ممكنا. إذ يعاني المنطق المحكم هذا من خلل متفاقم مع دخول لاعبين «خارجيين» أكثر حيوية واشد عدوانية كطرف في اللعبة. إعادة إنتاج السلطة في البلاد العربية، المشرقية على الأقل (وقد كانت تفترض ثبات البيئة الإقليمية) يمر بصورة محتومة اليوم بواقع الهيمنة الأميركية المباشرة الجديد.

على الفور، أخذت تظهر أعراض سوء تكيف على الدولة المعهودة. يظهر ذلك في قرارات متناقضة، في العجز عن متابعة السياسات القديمة الخاصة بـ»إعادة إنتاج» النظم ذاتها وتثبيت أركانها (أضحت السياسات القديمة المجربة تفضي إلى نتائج عكسية، كما يثبت المثال السوري في العلاقة مع لبنان)، تفاقم التناقض بين التشابك السياسي والأمني مع «الخارج» وتغذية العداء الشعبوي ضد «الخارج»، وبالتأكيد في مداعبة لعبة شارع ضد شارع على المكشوف.

في الشارع السوري تقدمت في الأسابيع الأخيرة سياسة أخرى: إحماء المشاعر الوطنية. مسرح الإحماء الرئيس هو الشارع الذي أعيد احتلاله وتعميره بالأيقونات والرموز واللافتات والشعارات والصور.

وبينما تقود الحمى الوطنية تلقائيا إلى لجم الانشقاق الداخلي، كما أعاد تذكيرنا بذلك المثال الأميركي ذاته بعد 11 أيلول (سبتمبر)، فقد ترافق في سورية مع فرط وبعثرة كل أشكال التجمع المنظمة، المستقلة أو المعارضة، حتى لو كانت تجري في أعماق البيوت.

إعادة احتلال الشارع، أي المجال العام، ماديا ورمزيا، ارتبط على الدوام بسياسة عزل المعارضة أو ضربها أو تهميشها، وفي جميع الأحوال بنزع شرعيتها السياسية والفكرية والأخلاقية. وبقدر ما إن «الدولة» ضعيفة فكريا وشرعيا، ويخترقها عنصر أهلي أو «شارعي» قوي، فإن احتلال المجال العام هو في الواقع شكل منظم أو هيكلي من سياسة شارع ضد شارع. والشكل هذا لا يستبعد شكلا سائلا من السياسة نفسها، أشرنا إلى أمثلة منه قبلاً. تقف الشرعية اليوم ضد الشارعية، أي ضد سيلان العنف في الشارع. إن العنف المشروع هو العنف الملموم من الشوارع، تحتكره مؤسسات (نقيض أجهزة) تخضع لمنطق الدولة.