الاتحاد/ باتريك سيل

بحكم موقعه في قلب العاصفة الشرق أوسطية، فقد أصبح لبنان في مواجهة خطر ماحق، يهدد بانزلاقه إلى مستنقع ثلاثة نزاعات، أولها داخلي وثانيها وثالثها إقليمي ودولي في آن واحد• ولكن هل أصبحت هذه الدولة الصغيرة المطوقة بالمهددات من كل جانب، عرضة للانتكاس صوب الفوضى السياسية مجدداً؟ قبل الإجابة على هذا السؤال، من المهم أن نقرر أن في لب المشكلات والتعقيدات التي تواجه لبنان الآن، ذلك الحبل السري، الذي يشبه علاقة ’’الحب اللدود’’ التي تربط ما بين لبنان وجارته سوريــا• فمــا مــن ضغوط تعرضـت لهـا دمشـق -مثلما هو حادث حالياً- إلا وكانت لها انعكاساتها وأصداؤها الفورية الملازمة في الجارة بيروت• وبما أن هذا هو واقع الحال، فما هي مؤشرات الخطر والمهددات الراهنة على وجه التحديد؟
تأتي في مقدمة هذه المؤشرات، السلسلة غير المسبوقة من عمليات الاغتيال ومحاولة الاغتيال التي طالت كبار القادة السياسيين ورجال الصحافة والإعلام اللبنانيين، مع العلم بأن هذه الحملة قد انطلقت ولم تتوقف إلى الآن، منذ مصرع رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، في شهر فبراير من العام الجاري• وغني عن القول إن حملة الاغتيالات هذه، قد أثارت موجة من أجواء الرعب والمخاوف هناك•

أما نذير الشؤم الثاني في هذا المشهد السياسي الحالك، فيتلخص في المراشقات وتبادل الإساءات والتهديد والوعيد، ما بين بيروت ودمشق• والتقاطاً للنبرة الخشنة هذه، كتب الصحفي اللبناني المرموق جوزف سماحة مقالة في صحيفة ’’السفير’’ اللبنانية قال فيها الأسبوع الماضي، إن العلاقات بين بيروت ودمشق قد أوغلت في حدتها وخصومتها، إلى درجة أنها بلغت ’’نقطة اللاعودة’’• وليس بعد، فثمة نذير ثالث للخطر، يلوح في الأفق اللبناني، ألا وهو الفصيل العسكري المسيحي المتشدد، الذي حافظ على بقائه سراً، تحت اسم ’’القوات اللبنانية’’• ومما لاشك فيه أن محافظة ’’القوات’’ المذكورة على بقائها، إنما تعود لمخاوفها مما تعتبره تهديداً لها من قبل المليشيات المسلمة، وخاصة تلك التابعة لـ’’حزب الله’’ الشيعي، إلى جانب استمرار وجود الفصائل الفلسطينية المسلحة• والمشكلة أن الجيش اللبناني، المؤلف من عدة فصائل متنافسة فيما بينها، يبدو عاجـــزاً عن فــرض إرادته وهيبته عليها• إلى ذلك نضيف مؤشر الخطر الرابع متمثلاً في بلوغ التدخلات الأجنبية في الشأن الداخلي اللبناني، شأواً بعيداً، سواء كان هذا التدخل من قبل الولايات المتحدة الأميركية أم من فرنسا وإسرائيل، أم من جانب الأمم المتحدة، مع ملاحظة أنه يتم أحياناً بدعوة من الفصائل اللبنانية المتنافسة ذاتها•

وبأخذنا لهذه المؤشرات مجتمعة، فإنه يمكن القول إن مرحلة جديدة من مراحل ’’الصراع من أجل لبنان’’ قد لاحت في المشهد السياسي بالفعل، في ما يحمل الكثير من التقاطعات وأوجه التشابه مع أجواء الكارثة التي حلت بلبنان في مطالع عقد ثمانينيات القرن الماضي• ويذكر أن تلك الكارثة كانت قد أعقبت الاجتياح الإسرائيلي عام ،1982 حين بذلت مساع جماعية لتخليص لبنان من براثن النفوذ السوري عليه، وكذلك من أجل تحريره من القبضتين الإسرائيلية والأميركية• والذي حدث أن سوريا ردت الصاع صاعين، فخابت كل تلك الجهود والمحاولات•

واليوم وبما أن كل الاغتيالات التي وقعت بين القادة وكبار الشخصيات اللبنانية، كان ضحاياها من المعارضين لسوريا، فقد كان طبيعياً أن تشير أصابع الاتهام فيها إلى دمشق• وعليه فقد توصلت لجنة التحقيقات الدولية، التي قادها المحقق والقاضي الألماني ديتليف ميليس، إلى استنتاجات بتورط محتمل لأطراف سورية في جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري• بيد أن البيّنات التي قام عليها ذلك الاستنتاج، لا تعدو كونها بيّنات ظرفية لا أكثر• وحتى الآن، فإنها لا تقوم على ما هو أبعد من مجرد الشك المعقول• وهناك عنصر ثانٍ لم تتم دراسته بما يكفي، ألا وهو احتمال حدوث اختراق إسرائيلي لأجهزة الاستخبارات السورية، وتعاقدها مع أحد العملاء السوريين، على ارتكاب تلك الجرائم، بقصد إلقاء اللائمة على دمشق• هذا ولا تزال التحقيقات جارية، على الرغم من إعلان القاضي ميليس انسحابه منها إثر تقديمه تقريره النهائي، بموجب تمديد تفويض لجنة التحقيقات الدولية لمدة ستة أشهر أخرى إضافية•

وفيما لو ثبت ارتكاب سوريا لجرائم الاغتيالات هذه، فإن ذلك سيعود عليها بعواقب جد وخيمة فيما يبدو• فأول ما فعلته هذه الاغتيالات، إثارتها لمشاعر الكراهية والغضب في لبنان، الجارة التي تشتد حاجة سوريا لاستمرار العلاقات الاستراتيجية معها• ثم إنها خلقت بيئة غير ملائمة البتة، لمضي سوريا قدماً في تحقيق طموحاتها المعبر عنها في برنامج الإصلاح الاقتصادي، مع العلم بأن عافية سوريا ومستقبلها الاقتصادي، إنما يقومان على تلك الإصلاحات• ثالثاً وأخيراً، فإن أحد العواقب الوخيمة لتلك الجرائم، أنها وضعت دمشق في قفص اتهام الرأي العام الدولي، علاوة على الضرر الذي قد تلحقه بصورتها واسمها وما قد ينجر عنها من استنزال الضغوط والغضب الدولي عليها•

ولكن دعنا نحاول النظر إلى الأمر من زاوية النظر السورية• ففيما لو اتهمت سوريا باغتيال وتصفية معارضيها السياسيين، فمن هو البريء، الذي يستطيع أن يرميها بحجر؟! أليس هو الشيء نفسه الذي تفعله إسرائيل بحق معارضيها وخصومها الفلسطينيين كل يوم؟ ثم ماذا يسمى غزو كل من واشنطن ولندن لدولة عربية عن غير وجه حق، وقتل آلاف من مواطنيها المدنيين وتعذيب الكثيرين منهم دون جرم ارتكبوه؟ لكل ذلك فليس غريباً أن ترى سوريا في الانتقادات الموجهة إليها، مثالاً ساطعاً على ازدواجية المعايير في الحكم على سلوك الدول وأفعالها•

ومهما يكن من أمر، فإن من الواضح أنه ليس في مقدور سوريا أن تسمح لقوة دولية معادية، بتمكين نفسها في جارتها القريبة لبنان، وتجعل منها قاعدة لانطلاق عملياتها المعادية لدمشق• ولكن هذا هو عين ما يطالب به المجتمع الدولي سوريا، بدعوته لها للانفصال التام عن لبنان• غير أن الحقيقة التي لا مراء فيها، أن أمن الحدود السورية، لم ينفصم يوماً عن علاقتها التاريخية والاستراتيجية بلبنان• وقد ظلت هذه الحقيقة ماثلة كما هي منذ أن أنشأت فرنسا ما أسمته بـ’’لبنان الكبير’’ في عام •1920 وعليه فربما بدت الاغتيالات هذه في نظر السوريين -إن ثبت تورط دمشق فيها- شكلاً من أشكال الدفاع عن النفس• تلك هي احتمالات نظرة النظام السوري لها على الأقل• فالقصد وراء الاغتيالات المذكورة، إرسال رسالة حازمة لكل من تسول له نفسه وضع حد للنفوذ السوري في لبنان•
وبعد، فإن المرء لا يتساءل عن مدى صحة أم خطأ حملة الاغتيالات هذه، لا سيما وأنها تنم عن خسة وإجرام لا تخطئهما العين• غير أن السؤال الملح الواجب طرحه جدياً، ما إذا كانت الاغتيالات ستخدم أهداف النظام السوري المحاصر تقريباً، والذي يكابد الآن من أجل بقائه في الأساس، أم أنها تخدم أهداف غيره؟