امير مخول

التراجع الملموس في دور لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية ليس بجديد. لكن تسارعه زاد في السنوات الخمس الاخيرة التي اعقبت انتفاضة الاقصى الفلسطينية من جانبي الخط الاخضر. انتفاضة الاقصى ليست سببا في تراجع دور المتابعة العليا بل كشفت عن محدودية الدور وقصره مقابل التحديات. وعمليا كشف نقاط الضعف في مستوى التنظيم السياسي الفلسطيني الجماعي في الداخل.

في السنوات الاخيرة عشنا اوضاعا وتحديات داخلية وخارجية اثبتت انها تجاوزت دور لجنة المتابعة بمبناها وادائها الحاليين. هذه الهيئة المفترض ان تكون الاهم في عملية تنظيم المجتمع الفلسطيني في الداخل, والتي تاسست في اوائل الثمانينات من القرن الماضي شكلت في بداياتها قيادة جماعية حاولت ان تحقق بعض اهداف مؤتمر الجماهير العربية الذي حظره اداريا رئيس الحكومة الاسرائيلية في حينه مناحيم بيغن, لكنها تحولت لاحقا الى جسم يتوارث الدور دون اي تحسين فيه او تطوير له ويعاني من ضعف قيادي ورؤية جماعيين ودون خطة عمل ومخطط مستقبلي, فعدى المناسبات السنوية المعروفة مثل يوم الارض والبحث المبتذل السنوي حوله, اصبحت هيئة تنتظر فرصة رد الفعل وليس الفعل وهو بحد ذاته ليس سلبيا لكن بشرط ان يكون رد الفعل بمستوى الحدث. وان كان مركبها التمثيلي اشكالي اذ انها هيئة تجمع منتخبين وتيارات في سياقات مختلفة ومستويات تمثيلية مختلفة ولا تضم كل القطاعات المؤسساتية بين جماهيرنا ولا كل مركبات المجتمع, بما فيها مجموعات كاملة تقريبا (مثلا الطائفة الدرزية) فان مركبها التمثيلي تراجع بشكل خطير لدرجة تهدد بفقدان ما تبقى من مصداقية لمبنى العمل الجماعي الحالي.

وان اتخذت خلال الصيف الاخير قرارا يتيما واحدا كان من المفترض ان يكون استراتيجيا. وهو مطابق لمطلب مؤسسات المجتع المدني الفلسطيني المنظم في الداخل بشأن طلب الحماية الدولية وتدويل قضايا هذا الجزء من الشعب الفلسطيني. القرار الذي اتخذ ردا على مجزرة شفاعمرو (آب 2005), الا انه قرار كما قرارات كثيرة اتخذ ولم ينفذ سياسيا رغم اعداد الوثيقة المنبثقة عن القرار. وعدم التنفيذ منبعه غياب الرؤية الواضحة وغياب الارادة وحضور الكوابح الداخلية والتي يتعاظم دورها السلبي مع غياب القيادة المحركة للجنة المتابعة في حين تعاملت اطراف ومركبات المتابعة كما لو انها في حل من المسؤولية تجاه تنفيذ القرار وتحمل تبعاته. وكل ذلك في غياب اية محاسبة واية معايير او الية للمحاسبة لا الداخلية كمؤسسة ولا الجماهيرية. فالمرجعية ليست ملزمة وليست ملموسة بتاتا وهي بالاساس ليست قائمة لان من يملك اليوم لجنة المتابعة هم رئاستها وسكرتاريتها واعضاؤها وليس الناس ولا علاقة بالاخيرين الا بدعوتهم لتنفيذ قرارات تؤخذ نيابة عنهم.

وليس غريبا ان يكون احد المؤشرات لهذا الوضع هو تدني المشاركة الجماهيرية في الانشطة التي تدعو لها لجنة المتابعة, وعدم اكتراث الناس بها وبدورها وتراجع الاعتراف الجماهيري بها كهيئة قيادية ملموسة ومؤثرة. يضاف اليها المؤشرات الكثيرة والمتتالية التي تؤكد ان قيادة لجنة المتابعة اصبحت تتحاشى عمدا بلورة رؤية جماعية او تخاف من الاجماع على رؤية جماعية تمثل حقا امال وطموحات جماهير شعبنا خاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع باقي اجزاء شعبنا وموقع فلسطينيي الداخل ضمن القضية الفلسطينية من جهة وفي المقابل موقف هذه الجماهير من دولة اسرائيل التي قامت على انقاض شعبنا الفلسطيني بجوهرها وبطابعها الاستعماري العنصري.

بكلمات اخرى, ان مشكلة لجنة المتابعة ليست الاداء فقط ولا مستوى التنظيم والمبنى وغياب محرك لها, وانما مستوى التنظيم السياسي الجماعي للجماهير الفلسطينية وسقف التطلعات الجماعي المنخفض في قضيتين جوهريتين قد تكونان وجهان لذات المضمون: الاول موقفنا الجماعي من دولة اسرائيل والثاني موقفنا الجماعي من موقعنا في القضية الفلسطينية – جزء منها ام خارجها. وفي كلتا الحالتين وضعت حدود حمراء ذاتيا تمثلت بعدم اثارة السؤال حول شرعية المشروع الصهيوني والاخر الاكتفاء بالتعريف باننا جزء من الشعب الفلسطيني (وهو ليس موقف بحد ذاته بل وصف حالة) وذلك تجنبا للموقف الفعال الداعي الى تعريفنا اننا جزء من القضية الفلسطينية بكل ما يعنيه ذلك.

ورغم خطورة هذا الواقع المأزوم فانه ليس نهاية المطاف. فداخل مجتمعنا توجد قدرات كافية للتخلص منه. وهنا من المهم الاعتراف بهذا الواقع المأزوم بغية مواجهته وتحويل اسلوب ومضمون التعامل مع نقاط الضعف الى فرصة جماعية للبناء والانطلاق.

الضعف والتراجع لا يعني بالضرورة غياب القدرات, فحقيقة هي ان الاحزاب والتيارات المختلفة عندما تنظم انشطة خاصة بها تنجح في تجنيد جمهورها وهو ليس بالقليل بتاتا, وعندما يجري تنفيذ قرار جماعي صادر عنها لكن ضمن لجنة المتابعة فان هذه الجماهير تغيب او تغيّب. اي ان العمل الجماعي على مستوى لجنة المتابعة كف عن تحريك الناس وتجنيد الجماهير واشراكها. وللاسف فان هذا السلوك من قبل اطرافها افقد لجنة المتابعة دورها ومصداقيتها من داخلها.

في تاريخ لجنة المتابعة تم تجريب او تبني عدة صيغ للعمل الجماعي فان تميزت بداياتها النضالية في الشعار الموحد للجميع فقد شهدت منذ النصف الاول من التسعينات تقبلا اكبر وتعبيرا اوسع عن التعددية الداخلية من خلال وجود شعارات موحدة لكن ايضا شعارات ورموز كل تيار يسير وراءها او يعبر عنها ضمن العمل الجماعي ويجند جمهوره ليشاركه تظاهرة القوة خاصته ضمن العمل الجماعي, وهي صيغة اثبتت ذاتها في مرحلة معينة ولا تزال انية. لكن ما يجري اليوم ان هذه الصيغة ايضا لم تعد كافية للاحزاب والتيارات المختلفة لتجند جمهورها الواسع كي يشاركها او لتتحفز لتجنيده. فلجنة المتابعة لم تعد مجدية لمالكيها – اي اعضائها كتيارات تريد محاصصة النفوذ والمكسب السياسي. واهمية المحاصصة تعود الى ضعف عنصر الثقة المتبادلة وهو امر معطى وليس نتاج سوء تفاهم بل نتاج اختلافات تبرز بالاساس من مسالة تنظيم المجتمع الفلسطيني في الداخل. ومحاصصة النفوذ والمكاسب والجهد النضالي ليست بالامر السيء بل العكس.

الحاجة الى تغيير بنيوي في لجنة المتابعة ليس تنظيميا فحسب بل ان يكون مستندا الى اعادة تحديد الرؤية والدور الجماعيين, ومضمون علاقتها كمؤسسة جماعية بالناس اي ان يكون الناس جمهور هدفها وليس الممثلين عنهم. وهذا ممكن من خلال انتخابها من قبل الناس كقيادة الجماهير العربية الفلسطينية في الداخل وفي رايي كجزء من قيادة الشعب الفلسطيني. الانتخاب المباشر هو اشبه من حيث النموذج بلجان واتحاد الطلاب العرب في الجامعات الاسرائيلية, حيث هي مؤسسات ملك الطلاب العرب وليست ملك اعضائها. ولجنة الطلاب العرب تمثل هذا الجمهور مباشرة بغض النظر لتوزيع القوى فيها, فقوتها ومصداقيتها من مجرد انتخابها وتناوب السلطة فيها وتعدديتها.

لكن لجنة المتابعة تعاني من امرين اشكاليين في سياق الحراك الداخلي احدهما هو ضعف البعد التمثيلي والثاني غياب التناوب في هيئاتها وضعف هذه الهيئات وعدم تعبيرها عن ارادة جميع اطرافها. وفي غياب اجماع بين اطرافها حول مستقبل مبناها فانه سيبقى ساكنا. وفي غياب رؤية جماعية فان العمل الجماعي سوف يقتصر على الكم وليس على تحول نوعي يشد للامام, بكل ما يولده ذلك من احباط.

وهذا يقودنا الى صيغة ممكنة على ضوء هذه المعطيات, وهي تقاسم السلطة في لجنة المتابعة الى حين انتخابها المباشر. والانتخاب المباشر بنظرة مستقبلية هو شرط ديمومة هذه المؤسسة اذا اريد لها البقاء. لتشكل اطارا تكامليا للادوار – اي جماعيا بالمفهوم النوعي وليس الكمي - ولتكون قادرة على استيعاب الاستراتيجيات السياسية المختلفة بين جماهيرنا بما فيها المتناقضة والتي تدور كما ذكرنا سابقا حول الموقف من الدولة وتحديد موقعنا الجماعي من القضية الفلسطينية.

تقاسم السلطة يتضمن من ناحية, تناوب سريع للرئاسة بين التيارات الرئيسية واستحداث هيئة رئاسة. لكن ايضا تقاسم مجالات عملها فتيار يقود لجنة رؤساء السلطات المحلية وتيار يقود لجنة الدفاع عن الحريات وتيار يقود هيئة لحل الاشكالات داخل المجتمع الفلسطيني وهكذا, ومجموع رؤساء الهيئات يشكلون معا رئاسة جماعية للجنة المتابعة. وهذا امر قابل للتنفيذ وليس كلجان عمل فرعية وليس كناطق رسمي ونواب رئيس بل كاطر بحد ذاتها لكل منها اليته واستقلاليته الذاتية. وهو نوع من لا- مركزة لجنة المتابعة من خلال تفعيلها ومحاصصة العمل من جهة والرصيد ايضا. وهي صيغة من شأنها ان تتيح المجال لحراك جماهيري ليس الأمثل المتوخى من خلال الانتخاب المباشر والمشاركة الجماهيرية, وانما الممكن حاليا من خلال مرحلة بينية تمهد الارضية للمرحلة الارقى ألا وهي مرحلة تنظيم المجتمع من خلال الانتخاب وضمن التنظيم الذاتي.