الحياة /محمد سيد رصاص

تخلت غالبية المجتمع العربي بعد ضياع فلسطين عن مطلب الد يموقراطية لمصلحة المطالب القومية والإجتماعية، وكان صعود زعماء مثل جمال عبد الناصر وأحزاب مثل البعث، مبنياً على هذا المدُ أو لإتجاه الاجتماعي العربي.

ولم ينجح العرب في التحديث والتنمية عبر هذا الطريق، والنتائج ملموسة على صعيد التخلف العربي في المجالات كافة. أما في موضوع فلسطين فكانت الحصيلة واضحة في حرب حزيران (يونيو) 1967 التي ما زال العرب يدفعون فاتورتها حتى الآن.

وإذا كانت الديكتاتوريا ت العربية أدت إلى ما أدت إليه تحت شعارات الوطنية والقومية، يبرز الآن، مع احتلال العراق وبعده، اتجاه ديموقراطي عند بعض العرب لا يرى مانعاً من أن تتولى الدبابة الأميركية مهمة إزالة الديكتاتوريا ت (كما جرى من قبل قوى أساسية عراقية راهنت على ذلك ومارسته)، أو أن يتم ذلك عبر مراهنات وأشكال أخرى تأخذ مسارات غير تلك التي حصلت في بغداد، وبحيث يتولى الخارج الدولي»جزءاً من عملنا» على حد تعبير ماركس عن بسمارك.

ويجب الإعتراف بأن هذا وصل إلى أجزاء مرموقة من القوى السياسية المعارضة في سورية، ولكن عبر لمسات سورية خاصة تختلف عن تلك التي مورست في بغداد 2002- 2003. وجرى الانتقال مفهومياً وفلسفياً إلى تلك الضفة الأخرى من قبل القوى السياسية السورية المشار إليها عبر تلاقيها مع مشروع «الشرق الأوسط الكبير» لما تبنت، وفقاً لما سمي «اعلان دمشق» (16 تشرين الأول / أكتوبر الماضي)، خفض انتماء سورية العربي إلى مجرد «انتماء إلى المنظومة العربية»، وهو سقف أخفض من سقف الدستور العراقي الحالي، ولما اعتنقت مفهوم «ديموقراطية المكوِنا ت» بدلاً من الديموقراطية التي تقوم على مفهوم المواطنة للأفراد المتساوين في الحقوق والواجبات، فيما نرى تلك القوى السياسية المعارضة تتجه إلى تبني رؤية تعتبر فيها أن المشكلة هي في الإستبداد فقط أو أنها داخلية محضة، من دون أخذ أي موقف من الخارج الأميركي الذي أصبح عند البوكمال، هذا إذا لم نقل بتلا قيها في بغداد معه عبر طرح الرمز الأبرز للمعارضة السورية لمفهوم «الصفر الإستعماري» (الإستبداد يساوي ما تحت الصفر)، وكذلك عدم اختلافها مع ذلك الخارج لما جرى الوصول إلى محطات القامشلي وبيروت و»أزمة ميليس» الأخيرة.

إذا كان هناك تشابه بين النظامين البعثيين في بغداد ودمشق، فإن من الواضح الآن أن بعض القوى السورية المعارضة تتجه إلى التماثل مع نظائر لها وجدت في بغداد. ولكن هل وضع المجتمع السوري، أثناء أزمة السلطة السورية الأخيرة مع واشنطن مثل وضعية المجتمع العراقي عام 2002 وصولاً إلى يوم سقوط بغداد في 9 نيسان (أبريل) 2003؟

كل متابع للوضع الحالي في سورية يلاحظ بأن انقسامات السوريين حيال قضايا الأزمة السورية – الأميركية ليست مبنية وفقاً لمصطلح «المكونات»، سواء كانت طائفية أو قومية أو دينية كما كان الوضع في العراق آنئذ، وإنما مبنية على اسس أيديولوجية - سياسية، نرى فيها الليبراليين الجدد وقوى كردية قومية متطرفة في وضعية المراهنة على الخارج الأميركي، مع ترددات واضحة في هذا الشأن عند «الإخوان المسلمين» والناصريين المعارضين، فيما ينحو كل من هو متمسك بماركسيته وبقية الإسلاميين والأكراد المعتدلون والقوميون المعارضون إلى حل وطني –ديموقراطي للأزمة في الداخل ومع الخارج ولطرق معالجتها ومجابهتها، عبر تحصين الوطن بالديموقراطية لمجابهة الخارج الأميركي ومطالبه، من خلا ل خريطة طريق تتضمن انهاء احتكار السلطة ونشر الديموقراطية عبر المدخل المتمثل في مؤتمر وطني عام يشارك فيه الطيف السياسي السوري بمجمله.

لم تظهر الأزمة الأخيرة بين واشنطن ودمشق ذلك فقط، وإنما بيَنت أيضاً مقدار الهوة الفاصلة بين تلك الطروحات والمراهنات على الخارج كما عبر عنها أو أضمرها «اعلان دمشق»، وبين المزاج الشعبي السائد في (إذا أردنا الحديث وفقاً لمنطق اصحاب «نظرية المكوِنات») الطائفتين الكبيرتين، السنة العرب والعلويين، وهو ما يمكن لمسه بسهولة في الشارع السوري، الشيء الذي فا ت على قوى سياسية سورية تعيش وضعية السمك خارج الماء في علاقتها مع المجتمع، وهذا ما أدى في المحصلة إلى ايقاع تلك القوى في عملية تكرار لمراهنات خائبة، أعادت فيها في عام 2005 ما قامت به عام 1980 لما راهنت على الخارج الاقليمي لإسقاط النظام، مع الفرق في أن المراهن عليه الآن هو الخارج الدولي.

عاش رشدي الكيخيا وصبري العسلي وخالد العظم حالاً شبيهة في 1957- 1958 لما فقدوا القدرة على قراءة المتغيرات الخارجية، كلُ من موقعه، وعلى تلمس نبض الشارع أثناء اقتراب سورية من الدخول في مفصل عهد الوحدة، الذي أرًخ لبداية حقبة جديدة في التاريخ السوري ما أدى إلى اختفاء الشخصيات السياسية الرئيسة التي كانت سائدة في الأربعينات والخمسينات، عن مسرح السياسة، لمصلحة أخرى جديدة برزت في الستينات وما بعدها.

لماذا لا يطبق على السياسيين ما هو معمول به في المسرح حيال الممثل الرديء، والذي لا يسمح له بالصعود إلى الخشبة من جديد؟