الدستور / حياة الحويك عطية

لم يحتج الامر الى جدل طويل حول التحليل ، فقد تسارعت الاحداث لتوفره على الكثيرين ، ومن اسرائيل تصاعد النداء مطالبا بفرض العقوبات على سوريا ، لكأن المايسترو لم يطمئن الى براعة الابواق العازفة لنوتته في لبنان وغير لبنان ، فقرر وضع العصاة تحت ابطه والانضمام الى الجوقة . لكن احدا لا يتحدث عن اسرائيل ، فسبحان من جعلها فوق الشبهات في حكاية العبيد العشرة الصغار .

وجاء كانوا عشرة او اقل ؟ وكانت اغاثا كريستي تتنبأ بالسيناريو اللبناني عندما كتبت روايتها الشهيرة ، فان اهم ما في تلك الرواية هو ان الشكوك كانت تتجه اثر احتفاء كل من صغار الجزيرة الى جهة ليست هي الجهة الكامنة حقيقة وراء الجريمة . لم احببه يوما جبران تويني ، وطالما تمنيت ان نتمكن من اخراس صوته بالحجة والمنطق اللذين يحسمان الصراع الفكري والاعلامي، واللذين لا يجوز ان يخليا مكانهما للغة الحديد والنار . كان ذلك منذ كنت اعمل لمجلة النهار العربي والدولي ، التي كانت اول ما اداره من امبراطورية ابيه ، وفوجئت كسواي بتأييده الاجتياح الاسرائيلي لبيروت عام 1982. يومها دب خلاف حاد بينه وبين الياس الديري الذي كان مديرا لتحرير المجلة ، وحمل جبران مكاتب تحريره الى الاشرفية ليكون في عهدة صديقه بشير الجميل ، وليأخذ راحته في مما لاة الاحتلال الزاحف على الجزء الغربي من العاصمة ، ممالاة لا تخرج عن اطار الخيانة الوطنية . منذها اختار الشاب معسكره ، وتدرج فيه حتى اصبح الصوت العالي المحرض الذي كنا نسمعه في الفترة الاخيرة ، جاعلا من سوريا والمقاومة اللبنانية هدف صراخه وتشويهه الرئيسي . وفي مركز الصحافة الاجنبية في راديو فرنسا كنا نسمعه قبل اسابيع قليلة يحرض على نزع سلاح المقاومة وعلى تفكيك حزب الله مهولا من خطر لم يرد الا في خياله المريض ، حيث قال بالحرف : ان حزب الله يريد ان يدفع المسيحيون اللبنانيون الجزية .

ولكن ... هل يعني كل ذلك ان زعيق وليد جنبلاط متهما سوريا بالعملية هو من باب الاستنتاج المنطقي ؟ ولماذا يحتفظ زعيم الميليشيات الدرزية بحق السبق الفوري في اصدار الحكم المبرم على كل عملية اغتيال تجري في بيروت ؟ امن باب الرعب ، أم من باب دور مرسوم من بين ادوار موزعة ؟ اوليس هناك من ينصحه بان صراخه العالي ضد سوريا يمكن ان يكون سببا ممتازا لاغتياله ، لا من قبل دمشق او القوى الحليفة لها ، وانما من قبل كل من يجد له مصلحة ملحة في اتهام هذه الاطراف . حيث ان السذاجة السياسية ، والانفعال الفوري الذي لا يعرف ابسط نسب ذكاء التحليل ، هو ذاك الذي يقول ان من يقف وراء عملية من هذا النوع هو الطرف المرشح للاتهام بها ، والمتأذي منها بالدرجة الاولى . في حين ان أي تحليل عاقل ومحايد هو ذاك الذي يعرف ان اية جريمة ذكية هي تلك التي تصمم بحيث تتجه اصابع الاتهام فيها الى غير من يقف وراءها حقا . كما وان السؤال البديهي الذي يجب ان يبدأ به التحليل هو : من المستفيد ؟ ومن المتضرر ؟ وكل ذلك في اطار السياق الذي يحدد كل الاجوبة .

واذ نقول السياق ، فان من البديهي ايضا ان لا سياق لبنانيا منفصلا عن سياقه العربي والاقليمي ، وذاك ما لم يكن يوما . بحيث ان هذا الاخير يعبر مرحلة تتسم بأمرين اساسيين : مصير الوضع في العراق ، ومصير الوضع في فلسطين ،أي مصير الامبراطورية الاميركية ، ومصير المشروع الصهيوني . الاول سيقرر في العراق ، فاما ان تنجخ الولايات المتحدة الاميركية في سحق المقاومة العراقية ، وتمرير المشروع السياسي كما تريده هي ، وبالتالي يتكرس نجاحها وهيمنتها على المنطقة ومن ثم العالم ، واما ان تفشل وتكون بداية نهاية الامبراطورية . وهنا يكون الدور السوري في المساعدة على قمع المقاومة دورا مفصليا . كذلك فان اسرائيل تعيش فرصتها المثلى لتصفية القضية الفلسطينية ، وكل ظواهر المقاومة في المنطقة ، وهنا ايصا يصبح الدور السوري مفصليا . كما يقتضي رفع منسوب الصغوط على عاصمة الامويين الى اعلى مستوياته ، كي تقبل بكل ما تطلبه منها الادارة الاميركية الصهيونية بدون تحفظ . من هنا كانت عملية اغتيال الحريري بداية المسلسل الذي كلما كاد يهدأ او لاحت بوادر فشله القي في ناره بوقود جديد .

وهل افضل لهذا الوقود من الشخصيات التي ترفع الصوت عاليا ضد سوريا مما يسهل تركيب التهمة . فأية صدفة هي التي تجعل اغتيال جبران تويني يأتي قبل يوم من التقرير الاخير لميليس ، ومع استقالته وتوقع مجيء اخر ، وبعد سلسلة فضائح شهود الزور التي هزت كل مصداقية الاتهامات السابقة . بل وقبل يومين من بدء الانتخابات العراقية التي يعول عليها الاحتلال كل اماله للخروج من مازقه في بلاد الرافدين .