الحياة / حازم صاغيّة

لولا المشهد المماثل الذي تقدّمه بلدان لم تتعرض لاحتلال اسرائيلي، لاتجه المرء الى تحميل الاحتلال ورعونته مسؤولية ما يجري للفلسطينيين في اختيارهم «حماس». لكننا للتوّ رأينا كيف صوتت مصر بكثافة للاخوان المسلمين، وكيف ارتدّت ايران عن اسلامية وديعة مثّلها خاتمي الى اخرى خشنة يمثّلها نجاد. كما تكشّف العراق، اثر سقوط صدام، عن اسلاميتين راديكاليتين، واحدة سنية واخرى شيعية، فيما يقال ان الاسلاميين هم من يرث البعث السوري في حال سقوطه.

وحيث لا يحصل هذا على صعيد الانظمة، او مؤسسات السياسة العليا، نراه يحصل في الشارع والزي والسلوك والمظهر العام، في البلدان الاسلامية وفي بلدان الهجرة.

أما فلسطينياً تحديداً، فيبدو صعود «حماس» في الانتخابات البلدية، واغلب الظن في التشريعية بعد اسابيع، مقابل تفسّخ «فتح» وتصدّعها، تحولا يعادل في وزنه التحول الذي طرأ قبل عقود ثلاثة ونصف: آنذاك أزيحت قبضة الناصرية والانظمة العربية عن منظمة التحرير الفلسطينية التي اضحت في عهدة المنظمات الفدائية، وحل ياسر عرفات حيث كان يحل احمد الشقيري.

لكن التحول المذكور جاء متساوقاً مع صعود الوطنية الفلسطينية النافرة من وصاية الدول العربية المهزومة في 1967. وهي بداية وجدت تتويجها، بعد منعطفات وتقلبات كثيرة، في طلب الدولة المستقلة التي راد المسيرة اليها قوى بعضها علماني وإلحادي وبعضها الأبرز مؤمن الا انه يفصل بين الدين والسياسة. فإذا صح ان هؤلاء جميعاً لم يمانعوا في استخدام الرموز والشعائر الدينية (القسّام، البُراق، الأقصى...)، غير ان الغرض الوطني بقي الهدف الاستراتيجي الأخير. وفي هذا، شابهت الوطنيةُ الفلسطينية نقيضتَها الاسرائيلية لجهة توسّل الدين، الى هذا الحد أو ذاك، خدمةً للدولة.

ويبدو هنا، ايضاً، ان الحقبة الوطنية تشرف على نهاياتها حتى لو تجسّدت بوطني راديكالي أسير كمروان البرغوثي، كيما تبتدئ الحقبة الاسلامية المتساوقة، هي الأخرى، مع وجهة راهنة في المنطقة. فلئن تشابهت الحركة الوطنية الفلسطينية والحركة الصهيونية، فها هي مصائر الاثنتين تتباين: فقد ضمر السياسي ـ الزمني لمصلحة الدين في الأولى دون الثانية.

ولا يجوز، والحال على ما هي عليه، قصر النظر على الصراع مع اسرائيل والإغفال عن الوجه المعتقدي والانانيات التنظيمية في مسيرة الحركات الدينية. ذاك ان الصعود الاسلامي، في مساره الطويل، سلك دروباً متعرّجة قاده بعضها الى التعاون مع السلطات الاسرائيلية ضد منظمة التحرير ومشروعها الوطني. وتتكفل مراجعة الخدمات التي أسداها الاحتلال للاخوانيين، والتراخيص والتسهيلات التي حظيت بها مؤسساتهم، منذ اقامة «المجمّع» الشهير، وضع الأمور في نصابها. وهو مُصغّر عما عرفه الاخوان المصريون، وبعض الفروع المتأثرة بهم في العالم الاسلامي، حين تعاطفوا مع المخططات الغربية، او تعاونوا معها، ضد جمال عبد الناصر والشيوعية السوفياتية.

وقصارى القول ان الاسلام السياسي الصاعد يمكن ان يجد ذريعته في ما لا يُحصى من أسباب: في الاحتلال، وفي الحكم الظالم، وفي التبعية للغرب، وفي الفقر، ولكنْ ايضاً في غنى ذي مصدر ريعي، وفي عجز عن الاندماج في مجتمع غريب، وفي العولمة والتغير الذي تحدثه، كما في العزلة، وفي كبت الحرية وفي انفجار الحريات. وهو ينمو على إحباطات هزيمة كالتي حلت في 1967 بعد وعود انتصارية مضخّمه، مثلما ينمو على انتصارات كتلك التي تحققت في افغانستان اواخر الثمانينات فصارت تحض على مزيد منها.

وهذا ليس عائداً الى اية جوهرية مزعومة تلتقي عندها التجارب السياسية الاسلامية، بقدر عودته الى اشتراك مجتمعاتنا وثقافاتنا في الافتقار الى شرعية دستورية تُواجَه بها الاسئلة المطروحة. فأمام التحديات المتضاربة نعود، دائماً وأبداً، الى ما في خزانتنا، وكفى الله المؤمنين القتال.

بيد ان الخاص في الحالة الفلسطينية هو الارتداد عن ثقافة الدولة قبل ان تتشكل الدولة. وهذا بمثابة التتويج لمسار القطع مع السياسة: فإذا كان حزب الله، مثلا، يريد ان «يقاوم»، من دون وجود أرض للتحرير، متوهّماً المزاوجة بين هذه المقاومة ودولة ما، فإن «حماس» قد ينتصر بانتصارها النفي الكامل والسلب المطلق: عندذاك لا تعود ضرورة للدولة أو للتزاوج معها.

وهي وقائع وحالات تستوجب التوقف عن إطلاق الزغاريد الاميركية عن الديموقراطية والانتخابات، والتفكير قليلاً في المجتمعات وثقافاتها. وهل يسهو المرء عن تلك الحقيقة المرعبة من ان الملايين صوّتت للمدعوّ أحمدي نجاد الذي كلما فتح فمه انفجر سيل من الجهل ولاحت كارثة في الأفق؟