معاريف / يوني شدمي وباراك ربيد

في آب 2002 رنّ الهاتف في بيت أبو محمد، المعروف أكثر باسم عبد العزيز الرنتيسي، الرقم 2 في قيادة "حماس" قبل أن يُغتال. رفعت السماعة أم محمد، زوجة الرنتيسي.

"يا أم محمد"، سأل الناطق بعربية بلهجة فلسطينية، "لماذا لم يأت ابنك أمس الى المسجد؟". "انه على ما يرام"، طمأنت أم محمد المهاتف المجهول، "ببساطة لديه امتحانات في الجامعة ويجب عليه أن يدرس كثيرا". لكن المهاتف ألّح، "كان يُفترض أن يلقانا محمد، ليحصل على مهمة ذات شأن". أدركت الأم القلقة أن القصد كان الى مهمة انتحارية.

"لا، لا، لا" أسرعت الى الرد بغضب، "محمد لا يشارك في أمور كهذه، انه يدرس لامتحاناته". "كيف يمكن أن ترفض امرأة مثلك مطلبنا"، سأل المجهول بتعجب، "وترفض دعوة المشاركة في الجهاد ضد العدو الصهيوني؟!". "أنا لا أعرف أناسا مثلكم"، ردت أم محمد بغضب وصفقت الهاتف.

نشر الجيش الاسرائيلي نص المحادثة، بعد أن حُددت بزعمه في المقاطعة في شريط تسجيل للاستخبارات الفلسطينية التي أصغت الى زعيم "حماس". تعاونت وسائل اعلام دولية وفلسطينية في الأساس مع الحيلة وانشغلت بمضمون الشريط المسجل لاسابيع، وكانت هناك اصوات في الجمهور الفلسطيني اندهشت كيف يجرؤ الرنتيسي على التضحية بأبناء الآخرين في عملية انتحارية، في حين أن أبناءه لا يشاركون في النضال.

زعموا في "حماس" بشدة أن المحادثة مؤامرة اسرائيلية. "إن ضابط استخبارات اسرائيلياً هو الذي اتصل بأم محمد"، زعموا آنذاك في المنظمة. "انهم يستعملون الحرب النفسية ضدنا".

في الانتفاضة الأخيرة أدار الجيش الاسرائيلي ما كان كما يبدو عملية الحرب النفسية الأكبر في تاريخه، تحت عنوان "كي الوعي" لرئيس هيئة الاركان السابق، بوغي يعلون. في بداية النزاع أكد رئيس هيئة الاركان أمام القيادة العليا في الجيش الاسرائيلي أنه يجب استعمال ضغط السلطة والسكان الفلسطينيين وأن "يُبيَّن بذلك" أنه لن تُحرز انجازات بالارهاب.

"استعملنا فقط القوة العسكرية كوسيلة لكي الوعي، من غير أن ندرك أنه بغير أفق سياسي لا توجد للردع أي قوة"، يقول العقيد (احتياط) أفرايم لافي، وهو رجل استخبارات قديم عمل رئيس حلبة مركز (التي تعتني بالفلسطينيين)، في لواء بحث "أمان" في السنين الأخيرة.

"في التصور الرئيسي للجيش الاسرائيلي عن احراز تغيير في الوعي كان خلل داخلي أحبطه، لأن التغير في الوعي لا يمكن أن يتم باستعمال القوة العسكرية فقط"، يقول لافي، "بل يقتضي ذلك عرض خيار آخر على الطرف الثاني يكون في نظره أخف الضرر. مع غياب بديل سياسي عن طريق النزاع، أدخل السكان الفلسطينيون زنزانة وعي كان عليهم فيها أن يختاروا بين الخضوع والنضال".

يعتقد اليوم كثيرون في الجيش الاسرائيلي أن تصور "كي الوعي" قد فشل. كشف الجيش الاسرائيلي عن أنه في كل ما يتعلق بالحرب النفسية، لديه الكثير مما يتعلمه. حل الجيش: اقامة وحدة جديدة، مركز عمليات الوعي، تحصل على نفقات وقوة بشرية بكثرة وتنشئ عمليات حرب نفسية متطورة وأكثر نجاحا من الدمار في السنين الأخيرة. في وثائق الجيش الاسرائيلي الداخلية عُرّف الهدف على هذا النحو: "استغلال الانشقاقات في المجتمع الفلسطيني والطريقة التي يفهم عليها أعمال الجيش الاسرائيلي، من أجل استعجال اجراءات ترغب بها اسرائيل".

الوحدة الجديدة التي أقيمت قبل نحو سنة ابتدأت تعمل بكامل النشاط. في الماضي، مثلا، عندما اتُخذت خطوات مضادة للفلسطينيين ردا على العمليات التفجيرية، لم تُصحَب بتوجيه التُهم الى المسؤولين. ولكن عندما أغلق الجيش الاسرائيلي قبل بضعة أشهر معبري كارني ورفح في أعقاب عمليات تفجيرية، اهتم أفراد الوحدة بأن يُعلقوا في المعبرين لافتات ضخمة، بإزاء أعين العمال والتجار الفلسطينيين: "مُغلق - بسبب حماس".

تمت عملية اخرى شاركت فيها الوحدة بعد الهجوم المُدمج لـ"حزب الله" في الحدود الشمالية قبل نحو ثلاثة اسابيع، والذي اشتمل على محاولة اختطاف جنود في قرية الغجر. بعد يوم من ذلك حلقت طائرات الجيش الاسرائيلي فوق بيروت وجنوب لبنان ونثرت منشورات دعت السكان الى الخروج على "حزب الله". "منْ يحميكم؟ يا مواطني لبنان؟"، سألت المنشورات سؤالا استنكاريا بالعربية. "منْ يكذب عليكم؟ منْ يُرسل أبناءكم الى المعارك التي لا يستعدون للخروج اليها بأنفسهم؟ منْ ذا يأمل عودة الدمار؟ منْ الذي يخدم أسياده السوريين والايرانيين؟". مع متابعة المنشور، وبحروف ضخمة، كُتب الجواب: "حزب الله يتسبب بضرر بالغ للبنان". لقد وقعنا جميعا، في هذا المقام، على المنشورات. ففي أسفل الوثيقة يظهر اسم المُرسل: "دولة اسرائيل".

"أمنشورات؟"، يغضب الدكتور رون شلايفر، "أمنشورات مرة اخرى؟". بحسب شهادة عدد من الضباط، شلايفر هو "أكبر الخبراء في البلاد بالحرب النفسية". أصبحت الساعة قد جاوزت التاسعة مساء ولا يزال في نوبته الحراسية في غرفته الضخمة في مبعوثية جامعة بار - ايلان في القدس.

تقع غرفة شلايفر في أحد أقبية المنشأة، في نهاية أروقة تغمرها أضواء النيون وتكتظ بالأبواب غير المُعلمة. رغم أن الغرفة تحتوي بالفعل على غرفة دراسية كاملة، وعلى اجهزة متطورة للفيديو وعلى شاشة عرض كبيرة، فانها تبدو فارغة تقريبا بسبب كِبرها. الى جانب طاولة خشبية في الزاوية اليمنى، محاطة بالأقراص الموسومة، وشرائط الفيديو مع كتابات بالعربية ومجلات وكُتب مع عناوين مثل "فن الخداع" و"سايبر شوك"، يجلس الدكتور شلايفر، منذ أكثر من 15 سنة وهو الشبح الذي يطارد نظام الحرب النفسية في اسرائيل. يعمل شلايفر اليوم باحثا كبيرا في مركز بيغن - السادات للابحاث الاستراتيجية في جامعة بار - ايلان، بعد حياة مهنية طويلة في الاستشارة في موضوعات الاعلام والحرب النفسية. وقد عمل من بين جملة ما عمل مع الجيش الاسرائيلي ووزارة الدفاع وهو أحد الخبراء الأفراد بالموضوع في الاكاديمية في اسرائيل. في القريب سيصدر كتابه "الحرب النفسية في الشرق الاوسط" بإصدار عن وزارة الدفاع.

أحد الكنوز التي جاء بها شلايفر كمستشار كان التعرّف القريب للتاريخ الغني للحرب النفسية. فقد اقترح مثلا أن يبث الجيش الاسرائيلي للفلسطينيين برنامجا (وهو يفكر اليوم ايضا بموقع انترنت)، يؤلف بين رسائل الحرب النفسية وتحيات من أسرى فلسطينيين سجناء في اسرائيل الى أقربائهم. "سيكون لهذا انتشار اعلامي واسع"، يؤكد، "ما لا يقل عن 50 ألف زائر في اليوم لموقع الانترنت". استمد شلايفر وحي الفكرة من الحرب العالمية الاولى والثانية، اللتين استُعملت فيهما الحرب النفسية بمقدار واسع في العصر الحديث.

في منطقتنا استعمل المصريون الحرب النفسية في الأساس، وبنجاح محدود. في عام 1948 ألقت طائرات مصرية منشورات فوق مستوطنات في جنوب كنير عام وياد مردخاي. أصبحت المنشورات، التي دعت السكان الى الخضوع، طُرفة اليوم في المستوطنات الشابة لانها كانت مصوغة بعدم فصاحة كبيرة واشتملت على اقتباسات مشوشة جدا من التوراة، حتى ان أفراد الكيبوتس الرواد قد عرفوا التشويهات. في الايام الستة ايضا لم تنجح محاولات الحرب النفسية المصرية، عندما بث المذياع المصري بالعبرية بلاغات مليئة بالفرح عن "تقدم القوات المصرية في جميع الصدريات (حزيوت بدل حزيتوت - المترجم)".

يُقلقون عرفات

نعود الى الساحة الفلسطينية. منذ الانتفاضة الاولى، يزعم شلايفر، سبقونا كثيرا في كل ما يتعلق بالحرب النفسية. هكذا مثلا كانت ربات البيوت يُعلقن سلسلة من الملابس الداخلية الحمراء، وغِلالة خضراء وقميصا أسود لتجف (وهكذا يُنشئن سلسلة ملونة للعلم الفلسطيني، الذي كان تعليقه محظورا). وبفكرة مشابهة، كان أصحاب حوانيت البقالة يعرضون في نافذة الحانوت زجاجة كِنلي توت (حمراء)، وسبرايت (خضراء) وكولا (سوداء). "وعندها يأتي رجل احتياط مُتعب"، يصف شلايفر مشهدا ذائعا في الانتفاضة الاولى، "ويبدأ مطاردة ربة البيت وصاحب البقالة ويقول لهما: أنزلا هذا. ليس الأمر سهلا على رجل الاحتياط، فعمله في البيت في ضيق، وهو يبدأ التفكير "أمن أجل هذا سيُغلق عملي؟ أمن أجل مطاردة انسان مع زجاجات الكولا والسبرايت في البقالة؟".

رد الجيش الاسرائيلي في البداية بمنشورات وُزعت في الممرات والحواجز. "من اجل ماذا تقاتلون؟"، كُتب فيها. وجالت سيارات "جيب" مع مكبرات صوت في المدن وأسمعت شرائط: هنا يتحدث قائد المنطقة، اذا ما شاغبتم فستفقدون شهادات التعليم الثانوية، واشياء أكثر أهمية ايضا".

في الانتفاضة الحالية، كما في السابقة، رغم مبادرات محلية، "كان عنصر الحرب النفسية في الجيش الاسرائيلي ولا يزال صغيرا"، يقول شلايفر. "جئنا غير مستعدين. في وحدة الحرب الاستخبارية والنفسية للجيش الاسرائيلي كان هناك في المحصل ستة أفراد. اذا ما نجح قائد ذو فكر خلاق في الميدان في أن يفرض استعمال وسائل الحرب النفسية، فقد كانوا يرضون ويقولون: حسن، يمكنه اللعب".

ولكن يمكن الى الآن أن نذكر حالات عدة آلف فيها الجيش الاسرائيلي بين وسائل الحرب النفسية في اثناء الانتفاضة الأخيرة. مثلا، اقامة دمى لجنود عند الحاجز بقصد ردع مخربين عن المرور بقربه، أو مثلا عمليات إحداث الضجيج. يستعمل الجيش الاسرائيلي شتى عمليات الحرب النفسية الضجيجية. ابتداء من الطريقة الأكثر أساسية، التي استعملت في لبنان، وفيها كانت جماعة من الجنود تصرخ، وتطلق النار في الهواء، وتُحدث جلبة تهدف بها الى الإخافة أو الى لفت الانتباه، مرورا بطرق أكثر تقدما، تعتمد على مكبرات صوت ضخمة وأجهزة صوتية متطورة. هكذا عملوا ايضا في اثناء محاصرة كنيسة المهد في بيت لحم في اثناء عملية "السور الواقي".

استُعملت على عرفات ايضا طريقة الحرب النفسية الضجيجية. فقد حصل الزعيم الفلسطيني، الذي كان محاصرا مدة طويلة في المقاطعة، على ساعات طويلة من أصوات الانفجارات واطلاق النيران تحت نافذته، كان يفترض أن تُقلق راحته وأن تتسبب بـ"زيادة الاحساس بالحصار". وقد أحسن عدد من الضباط ذوي الذهن الإبداعي في قيادة المركز الصنع وبدأوا يضيئون بأضواء زرقاء وخضراء مهتزة مكان السكن، وبذلك جعلوا مع "كونسيرت" الانفجارات عرضا ضوئيا - صوتيا كبير التأثير في كل مساء، للمحاصرين. تبلبل جزء من المحاصرين واستعدوا في مواقع قتالية عندما اعتقدوا أن الأضواء الغريبة تدل على بدء عملية عسكرية.

جعلوا الأولاد مذعورين

في الزمن الأخير بدأ الجيش الاسرائيلي يزيد من استعمال وسيلة اخرى من وسائل الحرب النفسية، فوق قطاع غزة في الأساس، تهدف الى التسبب بالخوف. خرق حاجز الصوت. بهذه الطريقة، تطير طائرة في ارتفاع منخفض وتنتقل الى سرعة تتجاوز سرعة الصوت فوق بيوت السكان. التأثير مدهش. إن أزيز المحركات ينشئ صرخة لا شبيه لها، هي صوت الحرب في أقوى أشكاله. بعد دقائق من الانفجار لا يمكن سماع أي شيء آخر، وتبقى اصوات العالم الخارجي مطموسة ايضا لساعات بعد ذلك.

ليست هذه هي المرة الاولى التي يجرى فيها استعمال اصوات الطائرات من اجل انشاء إضرار بالروح المعنوية. في الحرب الكورية استعمل الكوريون الشماليون في الليالي طائرات خشبية من الحرب العالمية الاولى، تُسمع ضجيجا عنيفا حينما تطير، من اجل منع الجنود الاميركيين النوم. وفوق غزة، وعلى امتداد ليال متتابعة، ثلاث أو أربع مرات في كل ليلة، تُسمع طائرات الجيش الاسرائيلي الفرقعات الهائلة. تعمل الطريقة على النحو الآتي: يتلقى سلاح الجو من قسم العمليات التنفيذية قائمة أهداف في القطاع، ويحدد وفق ذلك على أي ارتفاع ستطير الطائرات ومتى ستخترق حاجز الصوت. يخطط قسم أبحاث العمليات التنفيذية أي ضرر سيجرى على السكان من الفرقعات، في احدى القرى ستكون الضجة قوية جدا الى حد أنها ستتسبب بانهيارات لجدران ومبانٍ مختلة؛ وفي قرية اخرى ستهشم النوافذ والأبواب فقط. وفي قرية ثالثة ستعمل جميع اجهزة الإنذار في السيارات لقوة الضجة وفي قرية رابعة سنكتفي بإخافة السكان في أسرّتهم. تُبلغ منظمات الامم المتحدة عن مئات المباني التي تضررت نتيجة الفرقعات في موجة الهجوم الاولى. لكن الضحية الرئيسة هي الأولاد. "إن 70 في المئة ممن يشكون صعوبات نفسية بعد الفرقعات كانوا من الاولاد"، يقول د. خضر عباس، وهو خبير نفسي من غزة يعمل مع السلطة الفلسطينية. "رغم ذلك، يوجد بالغون كثيرون ايضا يعانون، لكنهم يحتفظون بذلك سراً، كما نُقدر".

إن برنامج الصحة النفسية في غزة الذي يرأسه الدكتور إياد سراج قد أجرى في الاسابيع الأخيرة بحثا عن تأثيرات سلسلة الفرقعات فوق الصوتية الأخيرة. جاء في التقرير التلخيصي وفي بيانات الوكالات الدولية أن نشاط سلاح الجو قد أثار عند اولاد غزة كوابيس، وإقلاقا للنوم، وخوف الخروج من البيت، ونوبات خوف شديدة، وأحلاما مع مميزات فقدان، ونوبات غضب واحساساً عاماً بعدم الأمن. "يمكن أن يكون هناك تأثير بعيد الأمد في اولاد سوداويين يشتمل على الانتحار". يقول عباس.