السفير/ سليمان تقي الدين

يتقاطع التشخيص السياسي للأزمة بين القوى اللبنانية عند القول بوجود مشكلة فعلية مع سوريا. يرى فريق ان ثمن الازمة تضحيات ربع الساعة الأخير من النزاع، فالبلاد الآن تحت حراسة <<المجهر الدولي>> ومجلس الأمن مستنفر لاتخاذ القرارات وتشكيل لجان التحقيق والمحاكم وهو يواكب التطورات ويقترب من اتخاذ خطوات رادعة. ويقترح هذا الفريق على اللبنانيين <<الصبر>> و<<الصمود>> <<فلم نعد وحدنا في العالم>>. ويذهب البعض الى اصدار حكم إعدام سياسي على النظام في دمشق. فاذا توغل هذا النظام في التخريب والاعتداءات على لبنان، يتوغل هذا الفريق في طلب التدويل والحماية. وقد بدأت ترتفع أصوات تطالب بقوات دولية. وتميل قوى هذا الفريق لتفسير القرار 1644 على أنه استمرار للاهتمام بلبنان واستجابة لمطالبه في المدى المستقبلي حتى لو ان القرار لم يوسع مهمات لجنة التحقيق الدولية ولم يقر إنشاء محكمة ذات طابع دولي كما جاء في الطلب الحكومي اللبناني.

ويرى الفريق الآخر في البلاد، الذي يناضل الآن للاعتراف بوجوده كفريق لبناني آخر، وسط الخطابات الوطنية الشمولية، يرى هذا الفريق ان عنوان الأزمة الحقيقي فعلا هو العلاقة بسوريا. وان سوريا التي خرجت من لبنان تحت ضغط القرار الدولي 1559 هي الآن في وضع دفاعي لأنها مطالبة بتبرير سياساتها والدفاع عن شرعية نظامها، وانها تتلقى ضغوطا دولية عبر الموقع اللبناني في سياق المشروع الاميركي الغربي لتطويع المنطقة، وان شعور سوريا بالخطر من بوابة لبنان يفرض إعطاء تطمينات لدمشق من الخاصرة اللبنانية وليس إشعارها بأن لبنان قد انضم الى جبهات التطويق وانه صار منطقة حدود اميركية ايضا. وان من مظاهر صدقية القوى اللبنانية في حديثها عن العلاقات الجيدة مع دمشق، وقف الحملات السياسية التي ما زالت تعتبر دمشق عائقا أساسيا لاستقلال لبنان وسيادته وفي تحديد طبيعة نظامه السياسي لأن التغيير في لبنان له مشكلاته الداخلية الخاصة، وترك التحقيق الدولي يؤدي وظيفته في كشف الحقيقة من غير تحريض المجتمع الدولي سلفا لقبول الاتهام السياسي لسوريا في الجرائم التي وقعت في لبنان، لأن المجتمع الدولي يستخدم هذا الاتهام في حملة الضغوط على سوريا ويوظفها خارج الحاجات والأهداف اللبنانية.

إن المشكل الحقيقي بين هذين المنطقين او الرأيين، هو في تجاهل الفريق الاول الانقسام اللبناني حول الخيارات الوطنية الكبرى ومنها العلاقة مع سوريا والتقليل من شأن ودور وموقع الفريق الآخر الذي له نظرته المختلفة لمجمل الأوضاع ومنها السياسات المتبعة في الرهان على المجتمع الدولي؛ وفي تجاهل الفريق الثاني كون سوريا ما تزال مباشرة ام غير مباشرة تلعب دورا مهما في التأثير على السياسات اللبنانية وتمارس ضغوطا على الواقع اللبناني بأشكال مختلفة لمنع تحقيق الفريق الاول انقلابه الكامل على واقع لبنان السياسي كما كان في السنوات الثلاثين الماضية. ولا يمكن لأحد ان ينكر بالمطلق وجود نشاط أمني على هذا الصعيد طالما ان سوريا تنظر بعدائية معلنة لبعض الفرقاء اللبنانيين.

المهم ان الفريقين التقيا عند وجود أزمة في العلاقات اللبنانية السورية. وان حل هذه الازمة هو ما يمكن ان يؤمن حدا من الاستقرار السياسي والأمني للبنان دون ان يكون عند أحد، وهم بان لبنان الذي يتجاذبه النفوذ الغربي والنفوذ السوري يمكن ان يعزز استقلاله واستقراره بالمطلق.

والسؤال المهم الآن، هل يملك لبنان ان يقرر باجماع أهله وقواه ان يستقل عن التجاذبات الدولية والاقليمية، بما يشبه اعلان الحياد التام بينها؟

لو صح ذلك وكان ممكنا فعلا لرجحت كفة الفريق القائل بالاعتماد على المجتمع الدولي لحماية لبنان. فلو ضربنا صفحا عن انحياز ما يسمى المجتمع الدولي، ولو فرضنا أنه سلطة مستقلة عن القوى المسيطرة في النظام الدولي، ولا سيما الولايات المتحدة الاميركية ومصالحها، وتدخلها النشط في المنطقة حتى العسكري، فإن لبنان مجتمع يصعب ان يتقبل فكرة الحياد، ويستحيل عليه ان يمارسه في ظل استمرار الصراع العربي الاسرائيلي، وفي ظل مجمل الصراعات والتوترات القائمة الآن في الشرق الاوسط. فليس لأحد ان يتخيل الآن ان المسلمين في لبنان سنة وشيعة يمكن ان يُحيَّدوا بالكامل عن نزاعات المنطقة. هذه الحقيقة لا تعجب البعض من القوى السياسية في لبنان، لكنها حقيقة موضوعية لا يمكن القفز فوقها سواء رغبنا في ذلك أم لم نرغب فيه. بل نقول ان مصير العراق الآن، وصراع الارادتين السنية والشيعية، قد يجران دول الجوار اليه، وقد يفتحان مرحلة من المنافسة يصعب تقدير أبعادها ونتائجها.
نعرف ان هذا الكلام يلقى استهجانا لدى بعض الأوساط اللبنانية، تلك الاوساط التي تفترض ان الوحدة اللبنانية أمر منجز، وان لبنان الكيان النهائي كما ورد في الطائف يجب ان يلغي كل احتمال في التفكير خارج هذا الكيان. لكن للأسف هذه حقيقة موضوعية ليس هناك ما يوحي بتجاوزها. فلبنان الطائف ما يزال قيد التأسيس، ومسيرة اللبننة قطعت شوطا كبيرا لدى جميع الطوائف والخلاف بين اللبنانيين لا يتجاوز نهائية الكيان اللبناني ولا يطرح اي من الفرقاء الآن مشروعا لادماج لبنان في سواه من الكيانات او ربط لبنان ربطا نهائيا بسياسات هذه او تلك من الدول بالمعنى الفعلي للكلمة كما كانت حالنا من قبل مع الوجود الفلسطيني.

ثمة نظرة مسبقة وخاطئة الى مشروع حزب الله والى موقع الطائفة الشيعية وموقفها عموما، أقله فيما هو معلن من أدبيات الحزب الآن وفي ردوده وتعاطيه مع القرار 1559 وسلاح المقاومة.
ينطلق حزب الله في تفسيره للطائف، اي لوثيقة الوفاق الوطني بين اللبنانيين، على أنها أقرت بعروبة لبنان وبالعداء لاسرائيل وبحق تحرير الارض بالمقاومة وبالتنسيق والتعاون مع سوريا واقامة علاقات مميزة وان لا يهدد اي من البلدين أمن الآخر.

وحتى الآن ليس من فريق لبناني يعلن خروجه عن وثيقة الوفاق الوطني ومقتضياتها، بل ان بعض اللبنانيين يقول بأن وثيقة الوفاق تؤكد على نزع سلاح الميليشيات وبسط سلطة الدولة في الجنوب بعد التحرير. وهذا ما يطلبه القرار 1559، فلا تناقض بينهما.
من الناحية الشكلية هذا كلام صحيح، لكنه في أساس الموضوع لا يتحدث لغة مشتركة مع جميع اللبنانيين او اكثريتهم، او حتى لا يأخذ من الطائف إلا عبارة نزع السلاح وبسط سلطة الدولة.

في مقاربة حزب الله لهذه المسألة، لا يرفض حزب الله بالمبدأ سلطة الدولة وسيادتها وانتشار جيشها، ولا يرفض بالمبدأ معالجة مسألة السلاح. إنه يضع القضية كلها في سياق آخر.

لا يزال حزب الله ومعه فريق كبير من سائر اللبنانيين يقول بأن التحرير الكامل لم يتم في الجنوب انطلاقا من مزارع شبعا وبعض النقاط الحدودية الاخرى، ووجود الاسرى والمعتقلين في السجون الاسرائيلية. فلماذا استعجال البحث اذن في موضوع المقاومة قبل التحرير النهائي سواء تم هذا التحرير عسكريا أم سياسيا ودبلوماسيا.

ويقول ان الجيش موجود في الجنوب بحدود امكاناته ودوره الفعلي ولا معنى لشعار إرسال الجيش الى الجنوب إلا من منطق الداعين الى إنهاء دور المقاومة، وهذه خدمة لاسرائيل لا تقدر بثمن.

ثم وهذا بيت القصيد، ان وجود المقاومة بشكل من الاشكال التي يمكن الاتفاق عليها بين اللبنانيين، وحماية سلاحها، هو جزء من خطة لبنان الدفاعية الواجب تأمينها في وجه الاطماع الاسرائيلية والعدوانية الاسرائيلية.

في هذا المنطق المتكامل لحزب الله لا محل لدور اقليمي يطمح اليه ولمشروع سياسي يتعدى لبنان. اما نظرته الى سوريا وايران، وكذلك الى المقاومة في فلسطين والعراق، فهي جزء من نظرته الاستراتيجية وتقديره لعناصر المواجهة مع الضغوط الاميركية والاسرائيلية، وهو لا يدرج هذه القوى في دوره اللبناني. يذكّر حزب الله باتفاق الطائف، بعروبة لبنان، بالعلاقات المميزة مع سوريا، وبضرورة ان لا يكون لبنان ممرا او مستقرا لأي قوة تهدد أمن سوريا واستقرارها. هذه مسألة ثانية تكاد تكون مستقلة عن فهم حزب الله لموقع ودور المقاومة في المرحلة المقبلة.

بهذا المعنى لدى حزب الله نظرة متماسكة لاتفاق الطائف ولا يعيبها إلا ان تطمئن سائر اللبنانيين الى مسألتين، ان هذا السلاح لن يكون جزءا من اي نزاع داخلي، وان لا يكون جزءا من اي توظيف خارجي. هاتان المسألتان يمكن حسمهما عندما تجد الدولة اللبنانية باتفاق جميع الفرقاء اللبنانيين صيغة لادراج هذا السلاح في مشروع الدولة، وهو أمر لا يرفض حزب الله حصوله او هو على الأقل يعلن استعداده للبحث فيه. ان مشروع حل كهذا لا يتحقق إلا في ظل دولة تملك سياسة دفاعية واضحة تحدد العدو من الصديق وتستلهم فعلا اتفاق الطائف وتأخذ في نظرتها للجوار والعالم هواجس جميع اللبنانيين وتطلعاتهم وكذلك مخاوفهم. ونعجب كيف ان قوى المجتمع المدني تصل في الحوارات بينها الى قواسم مشتركة لفهم القضايا الوطنية ولا تبادر الحكومة الى ادارة هذا الحوار على مستوى كل لبنان وجميع القوى، وتضع في محصلة ذلك خطتها الوطنية على هذا الأساس. إلا اذا كانت الحكومة تنطلق من نظرة اخرى غير الطائف ومن حسابات سياسية تضغط باتجاه ترجيح موازين قوى جديدة تتجاوز زمن الطائف.