الأهرام/عبد العظيم حماد

علينا أن نتجاوز الجدل الحالي حول الجهة المسؤولة جنائيا عن سلسلة الاغتيالات التي عصفت بلبنان، وتوشك أن تعصف بالمنطقة منذ اغتيال المرحوم رفيق الحريري، وينبغي ألا يفهم هذا التجاوز على أنه حكم غير قابل للنقض على جهة بعينها بالإدانة أو البراءة، ولكن القصد هو الانشغال بما هو أهم في اللحظة الحالية، وهو مدى دقة الحسابات السياسية والاستراتيجية في سوريا الشقيقة.إن ظاهر الأمور يوحي بأن القيادة السورية تتحلى بأعلى درجات الوعي بالمخاطر الكامنة في الموقف المتفجر حاليا. فمثلا وصف الرئيس بشار الأسد يوم اغتيال الحريري بأنه يوم أسود لسوريا، وكان أول تعليق له على اغتيال الكاتب الصحافي جبران تويني الأسبوع الماضي أنه حلقة من حلقات التصعيد ضد سوريا، ولكن هل يكفي ذلك للاطمئنان على سلامة الحسابات السورية؟!

لقد حدث كثيرا - حتى في الدول الديموقراطية - أن انفلتت أجنحة في أجهزة الأمن والاستخبارات من سيطرة القرار السياسي، إما لأسباب إيديولوجية، مثل الأجنحة اليمينية والعنصرية في دول الغرب الديموقراطية، وإما انطلاقا من حسابات سياسية حمقاء أو بدواعي المصالح وقوى الدفع الذاتية مثلما يحدث في نظم الحكم ذات الطابع البوليسي أو الفاشي في دول العالم الثالث.بل إنه كثيرا ما حدث ذلك أيضا في التنظيمات السياسية تحت مستوى الحكومات مثل الأحزاب. وتبقى حالة النظام الخاص لـ"الاخوان المسلمين" في مصر في أواخر الأربعينات نموذجا لا يُنسى لانفلات الأجهزة الأمنية والعسكرية من سلطة القرار السياسي.

وعلى ذلك فإن القيادة السياسية السورية مطالبة بالتأكد يقينا أولا وقبل كل شيء آخر من عدم وجود مثل هذا الانفلات في أجهزتها الأمنية، أو بين حلفائها في الداخل اللبناني. ومرة أخرى أعود وأؤكد أنني بهذا المطلب لا أتغافل عن وجود أطراف كثيرة تتلاعب بالساحة اللبنانية من أجل تحقيق أهداف استراتيجية بالغة الأهمية أبرزها تصفية "حزب الله". أو على الأقل إنهاء دوره الإقليمي الآخذ في الظهور. ولكن التأكد من عدم وجود انفلات أمني أو القضاء عليه - في حالة وجوده - سيكون الخطوة الأولى في بناء استراتيجية سورية- تحظى بتأييد قومي وإقليمي، وربما دولي فيما بعد، لإدارة الأزمة بنجاح. أما الرهان علي وجود موانع استراتيجية تحول دون تحرك أميركي أو دولي لإسقاط النظام السوري في المستقبل القريب، ومن ثم تأجيل القيام بالواجب الملح، فهذا نموذج صارخ للحسابات الخاطئة التي أدمنها الأشقاء في سوريا.

لنأخذ مثلا الرهان على أن الرئيس الأميركي لن يجرؤ على تكرار تجربة غزو العراق في سوريا، بينما لايزال غارقا في المستنقع العراقي، وإذا جرؤ فسوف يمنعه الكونغرس والرأي العام.صحيح أن هذه الحسبة تبدو ظاهريا سليمة، ولكنها تقوم على قياس انتقائي، فلماذا يتحتم اسقاط النظام السوري بالسيناريو العراقي، أي بسيناريو الغزو البري والاحتلال؟ بينما هناك بدائل أخرى كثيرة، تبدأ بالعقوبات، والتحريض، والعزل. وهناك أيضا السيناريو اليوغوسلافي أي الحملة الجوية المركزة على مفاصل النظام وأجهزته الحيوية، ولا يوجد مايمنع من ابتكار سيناريو خاص بسوريا، يجمع بين القصف الجوي، والدخول بقوات برية بتفويض من مجلس الأمن وفق جدول زمني أو جدول أعمال بحيث تنتفي مقدما صفة الاحتلال الامبريالي التي اتصف بها الغزو الأميركي للعراق منذ لاحت بوادره الأولى في خطاب محور الشر الشهير للرئيس الأميركي الحالي، وبحيث تخرج هذه القوات من الأراضي السورية - طبقا لنص القرار الدولي - بمجرد أداء مهمتها. وهنا لن تنتفي فقط صفة الاحتلال،بل قد يحل محلها تعبير التحرير، وفي هذه الحالة لن يواجه بوش العقبات التي يتصورها السوريون لا في الداخل ولا في الخارج.

أما الرهان على فيتو صيني أو روسي في مجلس الأمن، فالسوابق أقرب من أن تُنسى، ومصالح الدولتين مع الغرب بشقيه الأوروبي والأميركي أهم كثيرا من حماية النظام السوري. بل ليس هناك ما يمنع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من التصرف عند الضرورة خارج مجلس الأمن- كما حدث في أزمات البلقان- خصوصا أزمة كوسوفو، رغم المعارضة الروسية، ورغم أن أهمية هذه المنطقة لروسيا سياسيا وتاريخيا تفوق أهمية الشرق الأوسط برمته بالنسبة إليها، خاصة بعد أن تضاءل الدور الروسي الدولي من قوة عظمى عالمية إلى قوة كبرى أوروبية.

يبقى الرهان السوري على الافتراض القائل إن الولايات المتحدة ستخشى من انفجار قد لا يُحتوى بسرعة للموقف برمته في المنطقة إذا هي أقدمت على تحرك عسكري ضد سوريا، أو أقدمت على قيادة مثل هذا التحرك، بما أنه من المحتمل أن تهاجم قوات "حزب الله" شمال إسرائيل بالصواريخ التي يقال إن إيران زودتها بها، ومن ثم فقد يجتاح الإسرائيليون جنوب لبنان مرة ثالثة أو يشنوا بدورهم حملة قصف جوي مدمرة عليه، مما قد يدفع إيران لتصعيد التوتر في منطقة الخليج وجنوب العراق الشيعي، ويدفع القوى الوطنية اللبنانية لإعادة التوحد ضد إسرائيل من جديد، ومن ثم تجد الولايات المتحدة نفسها وقد أطالت خطوطها وعرّضت لحمها الحي أي جنودها في كل مكان في الشرق الأوسط للقتل.

قد تبدو هذه الحسبة أيضا معقولة، ولكنها تشبه طريقة حساب الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر لأزمة 1967 على غرار أزمة السويس عام 1956 فالتاريخ لايكرر نفسه بطريقة آلية، إذ يبدو انفضاض القوى الوطنية اللبنانية غير الشيعية من حول النظام السوري الحالي لارجعة فيه، وبالتالي لن يخاطر "حزب الله" بعزل نفسه نهائيا داخل لبنان من أجل حسابات خاطئة في دمشق، لاسيما إذا تسبب في اجتياح إسرائيلي جديد، وفي دمار شامل لبلاده وخاصة في الجنوب الشيعي حيث توجد قواعده الأصلية من أجل أهداف غير لبنانية، بل وفي غير مصلحة الشعب السوري نفسه، وكذلك في غير مصلحة العرب والمسلمين، فعندئذ لن تنجو قوات "حزب الله" نفسها من هذا المصير المظلم لا قدر الله بعد أن تنفض عنها غالبية اللبنانيين.وكيف يتصور عاقل أن تنجرف إيران إلى مواجهة مع الولايات المتحدة يفرضها عليها أمثال غازي كنعان ورستم غزالة، بل وكيف يفترض أن مثل هذا النوع من المواجهات مضمون النتائج إلا لأصحاب الحسابات الدقيقة، والموارد الاستراتيجية الكافية والحكومات المؤيدة من شعوبها؟!