المستقبل /فارس خشان

ثمة فارق جوهري بين الرابع عشرمن آذار 1989 وبين الرابع عشر من آذار 2005. فالتاريخ الأول هو عبارة عن استفراد بالقرار الذي انتهى إلى خسارة كبرى أنتجت كوارث لا تزال البلاد تدفع أثمانها الباهظة. صحيح ان اعلان العماد ميشال عون حرب التحرير في ذلك اليوم حمل كل عناوين السيادة والاستقلال والقرار الحر، الا ان الاصح ان هذه العناوين التي كانت مرفوعة بقوة منذ سنوات طويلة سابقة وتم التعاطي معها بليونة حينا وبقسوة حيناً آخر، انتهت الى حرب الغاء غذتها المخابرات السورية التي سمحت لحلفائها بتوفير كل ما تحتاجه من مقومات الصمود حتى يأتي ذاك الثالث عشر من تشرين الاول 1990 الذي جعل من حرب التحرير بوابة لتبسط سوريا قبضتها على كل لبنان مستفيدة من وكالة دولية شاملة بداعي الخوف على ما تبقى من مسيحيين هنا وبداعي تبريد الملف اللبناني لمصلحة أولوية ملفات أخرى هناك.

أما الرابع عشر من آذار 2005 فله سحره الخاص لأنه كان نتاج توافق غالبية اللبنانيين على وجوب توحيد الهدف من أجل تحرير البلاد من نظام امني لبناني سوري وصلت به السطوة إلى حدود العودة إلى اغتيال الزعامات الوطنية الكبرى بدم بارد للحيلولة دون توسل الآليات الديموقراطية من أجل انجاز التغيير الايجابي المنشود.

وعلى العكس من 14 آذار الأول أنجز 14 آذار السادس عشر غالبية اهدافه مؤكداً أن اي قوة مهما كانت غاشمة لا تستطيع ان تقاوم شعباً موحداً، وبذلك انتقم 14 آذار 2005 لـ 14 آذار 1989 بإنجازه 13 تشرين اول معكوساً، فانتهى الاحتلال العسكري السوري وانطلقت آليات محاسبة المجرمين على ارهابهم، بالتحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي يسحب نفسه على كل ما ارتكب بحق بلاد الأرز.

فخ ضروري
إلا انه فيما كانت الواقعية السياسية تجنح، بالاستناد إلى عضلات الرابع عشر من آذار الاخير، نحو اجراء تسوية داخلية بهدف السماح بانطلاق البلاد نحو العصر الجديد، وقعت البلاد في فخ كان لا بد من ارتضائه.

ذلك انه كان يستحيل التحرر من الاكثرية النيابية التي تسمح باستمرار العصر السوري من دون الذهاب بسرعة إلى الانتخابات النيابية. وكان يستحيل الذهاب إلى انتخابات نيابية من دون الحصول على موافقة الثنائية الشيعية المتكافلة والمتضامنة. وهكذا "بدا" قانون العام 2000 انه قانون التسوية بعدما أكدت الثنائية الشيعية انها لن تقبل بقانون يرفع سيطرتها عن كل الجنوب وبعض البقاع.

وكان في ذهن بعض القوى الأساسية في تحالف الرابع عشر من آذار عند القبول بالتسوية ان الاشكالية المسيحية سوف يتم ايجاد حل لها بالتشديد على التحالف الذي يستطيع ان يوزع المقاعد الانتخابية على أساس تقسيم انتخابي قوامه القضاء كترك المقاعد المسيحية في الأشرفية لقواها السياسية وكذلك الحال في بشري والبترون والكورة وزغرتا وغيرها.

لم يكن أحد يحسب حساباً لانتفاضة يمينية مسيحية وجدت قوتها في استياء بطريركي عارم وفي هالة العماد ميشال عون العائد من نفي الرابع عشر من آذار الاول وفي لعبة استخباراتية لبنانية سورية ادارها العماد اميل لحود الذي كان يخشى على استمراريته القسرية في رئاسة الجمهورية، الامر الذي عبأ الشارع المسيحي الذي وجد نفسه يصفّي قيادات طالما اصطفاها في موقع متقدم في وجدانه الاستقلالي. عند مواجهة "المؤامرة" تتراجع المبادئ.

"حزب الله" والانتخابات في ظل هذه الانتخابات النيابية، بدا ان البلاد تتجه نحو فرز من نوع جديد يحمل في طياته كل معالم الازمة الحالية.

ففي انتخابات بيروت النيابية بدت عاطفة "حزب الله" خارج سياق التحالف الرباعي، فصوت "جمهور المقاومة" ضد لوائح "المستقبل" الأمر الذي عاد وصُحّح الى حد كبير في انتخابات بعبدا ـ عاليه على اعتبار ان الخيار كان بين وليد جنبلاط الذي يرفض القرار 1559 بالشق المتعلق بسلاح المقاومة والذي دفع مسيحياً ثمن رعايته للتسوية مع الثنائي الشيعي، وبين العماد ميشال عون الذي كان لا يزال يرفع لواء تنفيذ هذا القرار الدولي والذي يمكن ان يعوض الفرق في مناطق اخرى مما يفسر دعمه في جبيل وزحلة (بغض النظر عن التأثير في جبيل بعدما أحدث هناك، على خلفية الغضب المسيحي من التسوية، تسونامي حقيقياً) عاطفة الثنائي الشيعي في انتخابات الشمال النيابية كانت الى جانب عون، يومها روجت وسائل الاعلام المرتبطة بهذا الثنائي للمقولات التي كان يرفعها عون، ومن هذه الوسائل الاعلامية خرجت روايات التحريض الطائفي والتصويت بالرشوة والتسويق للائحة 14 آذار والتبشير ببرودة التصويت السني.

كان واضحاً ان "حزب الله" الذي "دوزن" سلوكياته ليحسن التعاطي مع الوقائع السياسية المستقبلية لم يكن متحمساً ليحصد 14 آذار 2005 الغالبية النيابية لئلا تكون له كلمة الفصل في المجريات اللبنانية.

تشكيل الحكومة

وسرعان ما انتقل هذا الواقع الانتخابي الى مفاوضات تشكيل الحكومة: كان عون يشد لحاف الثلث المعطل على اساس انه والثنائية الشيعية واميل لحود طرف واحد.. وكان لحود يثبت هذه النظرية برفض التشكيلة تلو التشكيلة مستفيداً من اعتراض اي طرف من أطراف "الثلث المعطل".
وفيما كانت المفاوضات على قدم وساق لتشكيل الحكومة الجديدة دخل عامل مساعد على خط اضعاف الاكثرية النيابية: الاغتيالات.

في ظل حكومة نجيب ميقاتي اغتيل سمير قصير وفي ظل حكومة تصريف الاعمال اغتيل جورج حاوي وحصلت محاولة اغتيال الوزير الياس المر التي تم التعتيم وقتها على خلفياتها الحقيقية من اجل استثمارها لمصلحة سوريا وحلفائها.

مبادئ البيان الوزاري

وهكذا تشكلت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بتسوية ظهرت في بيانها الوزاري وتمحورت حول طريقة التعاطي مع ما تبقى من بنود القرار 1559 بحيث اخضعت القرارات الدولية للحوار الداخلي المسترشد بالوحدة الوطنية، قضية التعاطي مع ملف الرئيس الشهيد رفيق الحريري كانت مفتوحة على كل ما من شأنه توفير الحقيقة. لم تكن هذه القضية من الامور المطروحة للحوار الداخلي كمسألة نشر الجيش في الجنوب ونزع سلاح "حزب الله" بل للآليات الدستورية الطبيعية: توافق وإلا فأكثرية.

لم يكن أحد يحسب ان "حزب الله" الذي لا يثق بالأمن اللبناني ـ حتى في زمن الاستقرار السوري ـ بدليل حماية كوادره ضمن مربع امني خاص ـ سوف يقبل بترك كوادر 14 آذار فريسة لاغتيال الامن اللبناني المخروق بالعوامل السورية المحمية، فيثور على طلب توسيع صلاحيات لجنة التحقيق الدولية في مقابل مطالبته بالصبر على الامن اللبناني الوليد (عمره الفعلي لا يتخطى ثلاثة اشهر اي منذ انجاز التعيينات الامنية القيادية بتسوية) كما لم يكن احد يصدق ان كسب الوقت بتسريع طلب انشاء محكمة ذات طابع دولي في قضية اغتيال الرئيس الشهيد سوف يتسبب بأزمة دستورية ببعد طائفي، لكثرة الثقة بقدرة القضاء اللبناني على البت بملفات بهذه الضخامة والتعقيد.

وفي الوقت نفسه لم يكن احد يظن ان العماد ميشال عون الذي يأخذ على الحكومة عجزها عن الحزم بتوليد قراراتها سوف يتحول فجأة الى مستاء من تصويت الاكثرية، ومدافع شرس عن التوافقية تماماً كما حول مآخذه في عملية الاغتيالات الى الامن اللبناني الداخلي، وهو الذي يعرف بالتجربة والخسارة ومحاولتي الاغتيال اللتين تعرض لهما في العامين 1989، و1990 كم هي معقدة مواجهة حرب شنها النظام السوري على لبنان.

التحالف الموضوعي بين متناقضين

في واقع الامر ان قوى 14 آذار التي تفتش عن قاتلي رموزها من دون ان تتوقف عند التبعيات السياسية الاقليمية لهذا البحث الضامن للاستقلال في المستقبل القريب تواجه تحالفاً موضوعيا بين النظام السوري و"حزب الله" والعماد ميشال عون، على الرغم من الاختلاف الطبيعي بين هذه المكونات، ويعود هذا التحالف الى الآتي:

اولا: النظام السوري، لانه يفترض ان الوصول الى الحقيقة في قضية الحريري من شأنه ان يؤدي الى اسقاط بنيته الحالية وبالتالي لا بد من تيئيس اللبنانيين بتفريغ ساحتهم من القيادات التي تستطيع التأثير في الرأي العام، من دون ان يخشى عواقب جديدة لان المجتمع الدولي بات يملك كل الحجج لضرب هذا النظام ولكنه يخاف من البدائل.

ثانياً: "حزب الله" لانه يرى في النظام السوري جسراً لتواصله مع ايران من جهة ولأنه يشكل له ظهيرا قويا من جهة أخرى.

ثالثا: العماد ميشال عون يخشى ان ينفتح المدى السني اللبناني على المدى السني السوري في حال اصاب النظام السوري وهن او ضرر، لذلك يستفيد من "خدماته" بتقليم اظافر الاكثرية الجديدة ويقابله بمحاولة تخفيف النقمة على سلوكياته في لبنان. ولأن المسألة كذلك فهناك من اقنع العماد عون ان من مصلحة المسيحيين بقاء النظام الحالي في سوريا، الامر الذي يفسر الهجوم الاخير الذي شنه حلفاء سوريا بمفعول رجعي على شخصيتين سوريتين اصبحتا خارج القرار السوري وهما عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي والاثنان ينتميان الى الطائفة السنية.

مأزق الشبق الطائفي

ولأن المسألة اضحت بهذا التعقيد الواضح حيث استبدلت هموم السيادة والحرية والاستقرار بالشبق الطائفي الذي يبرر تحالفات موضوعية غير طبيعية، فيمكن الاعتقاد ان الحل لم يعد قائما في الكواليس السياسية بل في استعادة نبض الشارع من اجل الضغط لمصلحة حماية الاستقلال من حرب الابادة الجماعية التي تلغي شخصيات قيادية لا تعجب سلوكياتها المتحالفين موضوعيا، وهذا ما ادركه شباب انتفاضة الاستقلال قبل حكمائها.. فانتبهوا من مغبة احباطهم.