السفير/ وائل السواح

يميل كثير من السوريين في الآونة الأخيرة إلى استعارة صرخة ستالين <<الوطن في خطر>>، التي أطلقها أثناء الحرب العالمية الثانية، ليرفع الحس الوطني الروسي بعد عقود من محاولة طمس هذا الحس تحت مطرقة الطبقية الفجة. الهدف كان إنقاذ الاتحاد السوفياتي من براثن النازية الهتلرية التي راحت تدق الأبواب الروسية بعنف. وكان على جميع الروس، بمن فيهم أولئك الذين أمضوا نصف حياتهم في معتقلات سيبيريا وأولئك الذين فقدوا أحباءهم على يد جلادي <<أبي الشعوب>>، أن يتوحدوا حول قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي في ما أسماه ستالين، على خلاف التسمية الكونية، <<الحرب الوطنية العظمى>>.

الصرخة الستالينية استعادتها في سوريا أولا مجموعة ستالينية سورية يقودها الدكتور قدري جميل. وهو رأى أن <<الشعب السوري بتقاليده الوطنية ومآثره الكفاحية وشجاعته يعرف من هو العدو ويدرك إلى من يوجه بندقيته>>. اختيار مقصود للغة ريتوريكية قديمة استعارها الدكتور جميل من مرحلة الستينيات. ويضيف، من أجل إضفاء لمسة دراماتيكية على صرخته، أن <<الوطن في خطر وثمة من يبشر بتحطيمه فوق رؤوس أبنائه تحت دعاوى براقة زائفة استهدافها الوحيد إلحاق سوريا بالمشروع الأميركي>>.

على أن الوضع لا يقف عند حدود الدكتور جميل. فإلى جانب اسمه في أسفل الصرخة، نجد أسماء عدد من السياسيين والمثقفين والأكاديميين السوريين من أصول قومية وماركسية وإسلامية. واللافت، ربما، أن شعار <<الوطن في خطر>> قد استولي عليه من قبل مجموعة من كبار رجال الأعمال السوريين الجدد الذين وجدوا ونموا في ظل النظام الاقتصادي الاستثنائي في سوريا، وهم غالباً إما من أبناء مسؤولين سوريين أو من رجال أعمال جدد نما رأسمالهم بشكل سرطاني في ظل علاقاتهم برموز معينة من السلطة السورية.

الجديد أن التوقيعات القديمة استبدلت بها توقيعات جديدة، فاستبدل باتحاد العمال واتحاد الفلاحين واتحاد شبيبة الثورة وجماهير صغار الكسبة أسماء لامعة لشركات تجارية أو لبرلمانيين وتجار وصناعيين أو أسماء عامة مثل <<أهل الشام>> وهو على ما يبدو اسم لمجموعة من البرلمانيين الدمشقيين الذين دخلوا مجلس الشعب السوري لأول مرة في السنوات الأخيرة، بينما انزوت الأسماء القديمة في الظل مع علم حزب البعث الذي ما عدنا نراه مؤخراً ومع نشيد حزب البعث الذي ما عدنا نسمعه بديلاً عن النشيط الوطني. أما الجديد الثاني، فهو تمركز هذا النشاط <<الوطني>> في دمشق بشكل شبه حصري، حيث تكاد تخلو حلب وحمص والمدن الرئيسة الأخرى من ظاهرة الخيمات والمضافات وتعليق الأعلام على الشرفات. يدفعنا هذا الهوس الجمعي إلى تساؤل لا مندوحة عنه: هل الوطن فعلا في خطر؟ وإن كان كذلك فما هو هذا الخطر الذي يتهدده؟ وأخيرا كيف يمكن مواجهته؟

سوريا ليست الاتحاد السوفياتي. والوقت الراهن ليس زمن الحرب العالمية. وإذا كان ثمة خطر خارجي، فهو بالتأكيد ليس خطراً نازياً، ينبغي على الجميع، بقطع النظر عن انتماءاتهم وآرائهم وهمومهم، التوحد لمواجهته. إذا كان ثمة خطر خارجي، فيجب البحث عن مسبباته في الداخل. أما الخطر الحقيقي الذي تواجهه سوريا الآن فهو خطر داخلي مزدوج يمكن أن يولد بالنهاية خطراً خارجياً محتملاً. هذا الخطر المزدوج هو الاستبداد والانقسام المجتمعي.

فأما الاستبداد فهو مقيم منذ أكثر من أربعة عقود. وهو يحمل بذور كل الأخطار الأخرى التي تتهدد البلد، نظراً لتمكنه من بنية سوريا الاجتماعية والسياسية، ولطول أمده ولانسداد آفاقه الاقتصادية والتنموية ولإفلاسه من إمكانية تطوير المجتمع ولكونه يقوم على انتهاك الحقوق الفردية كما الاجتماعية، ولكونه العائق الأساسي أمام تطور مجتمعنا وأمام تملكنا لحقوقنا الفردية التي نتمسك بها جميعها.

وأما الخطر الثاني فهو خطر انقسام المجتمع على نفسه. وهذا الخطر نراه في مظاهر الحسابات القومية والدينية والطائفية والمذهبية والعشائرية والعائلية التي بدأت تظهر في السنوات الأخيرة. وهو خطر ربما كانت له أرضيته القديمة، وربما كان على الأرجح وليداً لسياسات النظام الطائفية، إلاّ أننا لا نستطيع أن ننكر التأثيرات الخارجية وخاصة الحدث العراقي الذي أظهر أسوأ ما في بنية المجتمع العراقي من انغلاق وتعصب وتمحور قومي وطائفي بغيض. وأخطر أشكال التعصب الديني والطائفي هو تعصب الأغلبية العددية الذي يدفع الفئات القومية والدينية الأخرى إلى القلق والتخوف مما يؤدي إلى انغلاقها وانكماشها وابتعادها عن الانخراط في الشأن العام وإخلاء الساحة للأغلبية باعتبارها <<صاحبة السيادة>> بالمعنى العددي.

وليس هذا نهاية المطاف؛ فثمة، إلى ذلك، أخطار أخرى جسيمة مثل الفقر والأمية والتردي الاقتصادي وتراجع الفكر العلماني وتراجع دور المرأة والتردي الثقافي والفني وبعد الجماهير عن الشأن العام. وهي أخطار محدقة لا يمكن المساومة عليها ولا تأجيل العمل على إيجاد حلول لها تحت أي تبرير. أما الخطر الخارجي فمقدور عليه إذا ما اتخذت الحكومة السورية سياسة سليمة في الداخل والخارج. إن انفتاحاً داخلياً حقيقياً، يقتضي تعديلات جوهرية في شكل الحكم ودور الحزب القائد، كما يقتضي إطلاق الحريات العامة بدون حسابات حزبية ضيقة، وإصدار قانون جديد للأحزاب، قمين، إذا ما ترافق مع انفتاح خارجي، يقتضي شفافية أكثر في التعامل مع لجنة التحقيق الدولية، وشفافية أكبر في التعامل مع الملف العراقي، بأن يحول الخطر الخارجي إلى عامل إيجابي سوف يساعد ربما في عملية بناء سوريا مستقبلية مختلفة. ومن دون مثل هذه الخطوات الضمانات، فإن أية دعوة إلى وحدة وطنية لن تكون سوى استنساخ لدعوة ستالين، في زمن ليس فيه نازية مخيفة، وإنما نزوع عالمي صادق نحو الديموقراطية وقيم المجتمع المدني وحقوق الإنسان.