الشرق الأوسط/ صالح القلاب

هناك اعتقاد يصل حدود الجزم بأن الولايات المتحدة، ومعها إسرائيل وكل دول الاتحاد الأوروبي، لم تفكر في أي يوم من الأيام وهي لا تفكر الآن بتغيير النظام السوري الحالي واستبداله بنظام آخر، لا من داخله ولا من خارجه، وان كل ما في الأمر أن المطلوب هو أن يغير هذا النظام سلوكه وأن يتخلى عن صيغ وسياسات القرن الماضي وأن ينضبط بـ«نوطة» القرن الحادي والعشرين وأن يفعل ما فعله العقيد معمر القذافي فيصبح مقبولاً في العالم بأسره.

إن الولايات المتحدة مهتمة ومعنية بالفعل بألا يبقى النظام السوري شمولياً وألا يبقى نظام حزب قائد واحد وأن تصبح سوريا دولة ديموقراطية وتعددية، لكن المؤكد أن ما يهمها أكثر من هذا كله هو ألا تبقى دمشق تتطلع الى خارج حدودها وأن تتوقف عن السعي المتواصل لدور إقليمي في المنطقة، وأن تخرج من لبنان أمنياً وسياسياً بعد ان خرجت منه عسكرياً وتوقف كل تدخل في الشأن العراقي الداخلي.

غير صحيح على الإطلاق أن ما بين سوريا والولايات المتحدة هو عملية السلام في الشرق الأوسط، وهو القضية الفلسطينية ومسار الحلِّ في هضبة الجولان السورية، فالمعروف، إلا لمن لا يريد أن يعرف، أن دمشق هي التي تريد عملية السلام الآن وبدون الشروط السابقة وأنها لم تعد تتمسك بأن تُستأنف المفاوضات من النقطة التي انتهت عندها وأن إسرائيل هي التي تماطل وهي التي تصر على أن الوقت غير ملائم لاستئناف هذه المفاوضات.

والمعروف، إلا لمن لا يريد أن يعرف أيضاً، أن سوريا كانت تخلت عن تشددها ورفضها للقرار الدولي رقم 242 منذ ان أطاح الرئيس حافظ الأسد بنظام اللواء صلاح جديد ـ نور الدين الأتاسي السابق المتشدد وأنها بعد حـرب اكتوبر (تشرين الأول) كانت السباقة الى مفاوضات «جنيف» الشهيرة وأنها كانت السباقة أيضاً الى مؤتمر مدريد في مطلع تسعينات القرن الماضي وأنها هي التي رفضت صيغة الوفد العربي المفاوض الواحـد ورفعت ذلك الشعار القائل :

«كل يُقلِّع شوكه بيده .. وكل شاة معلقة من عرقوبها»، وذلك لاعتقادها بأن الأولوية ستكون لمسارها، وهو المسار المتعلق تحديداً بهضبة الجولان المحتلة.

.. وهكذا فإن عقدة العقد بالنسبة لسوريا ليست هي استئناف عملية السلام حتى بدون شرط «من النقطة التي توقفت عندها» ولا الحرص على الحق الفلسطيني التاريخي من البحر الى النهر، ولا أيضاً إخراج الاحتلال الأميركي من العراق ولا حفظ الاستقرار في لبنان.. إن عقدة العقد هذه بالنسبة للقيادة السورية هي عدم التفريط بما تعتقد أنه حقها في الإمساك بمصير هذه المنطقة ومنع أي دولة من دولها من أن تتصرف منفردة حتى بشؤونها الداخلية.

إن لدى القيادة السورية الحالية اعتقادا تعتبره من ثوابت سياساتها بأنه عليها ألا تفرط بالدور الإقليمي الذي اجترحه الرئيس الراحل حافظ الأسد، وبما يشبه الحفر في الصخر، على مدى عقود سبعينات وثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وإنه لدى هذه القيادة قناعة راسخة، في ضوء متغيرات السنوات الأخيرة ومستجدات المعادلة الإقليمية والدولية، بأن التفريط بالورقة الإقليمية أولا ًفي لبنان وثانياً في العراق وثالثاً في فلسطين، هو تفريط بالنظام نفسه.

تقول رواية، جرى التأكُّد من صحتها، ان مسؤولاً عربياً (لا ضرورة لذكر اسمه ولا اسم بلده) التقى الرئيس السوري بشار الأسد عشية تدهور الأوضاع في لبنان الى أن وصلت الى ما وصلت إليه، وان الحديث تركَّز على مسألة التجديد للرئيس اللبناني أميل لحود لنصف ولاية، وهي مسألة بدأت، مع مطلع شهر أغسطس (آب) من العام الماضي 2004، تطرح نفسها بقوة وغدت عامل استقطاب شديد في الساحة اللبنانية وعامل شدٍّ وجذب بين بعض اللبنانيين والقيادة السورية.

وتقول الرواية إن المسؤول العربي نصح الرئيس السوري بألا يتمسك بقضية «التجديد» هذه وأنه من الأفضل له «في مثل هذه الظروف العصيبة» ان يبحث عن بديل للجنرال لحود، وبخاصة أنه ليس بمقدور أي لبناني من الممكن أن يتبوأ منصب رئيس الجمهورية أن يكون أقل من سلفه التصاقاً بسوريا، وأن يكون أقل من هذا السلف مراعاةً لمدى حاجة دمشق بألا تفرط بأوراقها الإقليمية وهي تواجه كل هذه التحديات الداخلية والخارجية.

وحسب هذه الرواية فإن الرئيس بشار الأسد ردَّ بالقول: «إنني أعرف أن أي رئيس لبناني في ظل الظروف الراهنة لا يستطيع إلا ان يكون معنا، ولكن ما يجب ان يكون معروفاً هو أنني ذاهب لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل قريباً، ولذلك ولأنني حريص على تلازم المسارين السوري واللبناني فإنني لا أجد بديلاً للرئيس أميل لحود، إنه معنا مائة في المائة إذا كان الآخرون معنا تسعين في المائة».

ووفقاً لهذه الرواية فإن الحديث عن مسألة «التجديد» لم تأخذ من وقت هذا اللقاء سوى نحو عشرين دقيقة، وأن الوقت المتبقي، ومدته أكثر من ساعة كاملة، أُعطي للحديث عن أزمة العلاقة بين القيادة السورية ورئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري.. وقال هذا المسؤول العربي ان الرئيس بشار الأسد قد تحدث بالنسبة لهذه المسألة بحدة وانفعال.. وأنه وصف رئيس وزراء لبنان الأسبق بأنه «تاجر ورجل صفقات»! وليس رجل دولة و«أنه هو وشيراك أسسا شركة خاصة لاستغلال حقل غاز في مياه البحر بالقرب من شواطئ صيدا.. وان هذا كل ما في الأمر»!

ثم وهناك رواية أخرى تقول، إن وزير الخارجية الإسباني ميغيل موراتينوس جاء الى دمشق في وقت لاحق بمهمة أوروبية، وأنه التقى الرئيس بشار الاسد وأبلغه بأن الاتحاد الأوروبي ضد التجديد للرئيس لحود.. وأنه يرشح بديلاً له مدير المخابرات اللبنانية الأسبق جوني عبده. وتشير الرواية الى ان الرئيس السوري أبلغ المبعوث الأوروبي بعد حديث مطول بأنه سينظر في هذه المسألة وأنه في حال عودته الى دمشق بعد اسبوع سيبلغه أنباءً طيبة.

وَتذْكرُ هذه الرواية أن المبعوث الأوروبي ذهب في جولة شملت عدداً من الدول الخليجية ثم عاد الى دمشق، وعندما التقى الأسد مجدداً قال له هذا الأخير:«إنني آسف لأنني لم أستطع تلبية رغبة الاتحاد الأوروبي.. لقد كنت مصمماً على الأخذ باقتراحك لكنني وجدت ان شقيقي ماهر قد أنهى مسألة التجديد للرئيس لحود.. ولذلك وتحاشياً لأي مفاجأة قد تترتب على أي محاولة لإعادة خلط الأوراق مرة أخرى، فإن قراري الذي أبلغه إليك هو ان خيارنا النهائي هو الرئيس لحود».

فماذا يعني هذا..؟!

إنه يعني أن سوريا تخوض المعارك التي تخوضها وبكل هذه الاستماتة، إن على الجبهة اللبنانية وإن على الجبهتين العراقية والفلسطينية، من أجل الاحتفاظ بالورقة الإقليمية التي ورثها الرئيس بشار عن والده حافظ الأسد، والتي تعتقد القيادة السورية أن التفريط بها هو تفريط بالحكم والنظام، وان الاحتفاظ بها يستحق خوض كل هذه المواجهات؛ إن في لبنان.. وإن في العراق وإن بالنسبة للقضية الفلسطينية.