السفير/عمّار نعمة

ما زال هو نفسه، لم تغيّره السلطة كما الخروج منها، زادته السنون تشبثا بالمبادئ والفكر والقيم التي طالما آمن بها منذ البداية. تغير الزمن ومعه اللاعبون، إلا انه أبى إلا أن يستمر على الطريق الذي يعتقده قويما، ولو سار عليه وحيدا، من دون تراجع أو لين، برغم الضغوط والموانع. ما زال يواصل المسار منذ نحو ثلاثة عقود، داعيا حتى بعد خروجه (أو إخراجه) من السلطة، للوطن وللعروبة، إيمانا منه بأن الانكفاء عن ممارسة الحكم، لا يعني انكفاء عن أداء الدور الذي تتطلبه هذه المرحلة المفصلية من تاريخ الأمة ومعها الوطن.

يشعر الرئيس الدكتور سليم الحص بالمرارة الشديدة ويساوره القلق العميق حيال ما تشهده الساحة المحلية من اصطفافات طائفية ومذهبية حادة في مواجهة أية قضية تطرح على ساحة النقاش السياسي في البلد، ويشدد أن لا استقرار، وبالتالي لا قيامة ولا ديمومة للبنان، من دون إيمان أبنائه الحقيقي بوحدتهم الوطنية، ومن دون اتفاقهم على مفهوم موحد للمواطنة في ما بينهم لتجاوز الفئوية في مرحلة خطيرة ومفصلية في تاريخهم.

وانطلاقا من إيمان الحص العميق بالقضية الوطنية والقومية، قام بمبادرته الأخيرة من خلال <<منبر الوحدة الوطنية>> أو ما عرف ب<<القوة الثالثة>>، في ظل الاصطفاف السياسي الأخير في البلد بين موالاة ومعارضة وبين ساحتي 14 و8 آذار. أراد من خلال هذه المبادرة <<اضافة جهد مميز في اطار صيغة أو مشروع توافقي ما مع مختلف القوى السياسية والفعاليات على الساحة>> كما ردد أكثر من مرة في حوار مع أسرة <<السفير>>، وهو يبدو تواقا إلى التوصل عبر هذا المشروع الى اجراء حوار جدي وفاعل ومفيد بين مختلف الافرقاء على الساحة، مشيرا في هذا الاطار الى <<اننا كنا وما زلنا نسعى من خلاله لفتح ثغرة وكوة نحو مستقبل افضل في هذا البلد>>.

حل الخلاف حول ال1559

يبدو الرئيس الحص مثاليا وربما طوباويا الى حد كبير في طروحاته، لكنه يظهر شديد الحماسة للمضي قدما في ما يراه خلاصا للأزمة العاصفة التي تعيشها البلاد، لذا لا يكل من اعادة التذكير على هذا الصعيد، بسبب انشاء القوة الثالثة في لبنان قبل اشهر في الوقت الذي انقسمت فيها البلاد بين موالاة ومعارضة، ويشير على هذا الصعيد الى أن الخلاف كان يتركز حول القرار 1559 ويلفت الى أن الحوار كان مقطوعا في البلد <<فقد كانت الاطراف المختلفة بين بعضها البعض تتراشق من وراء المتاريس، فارتأينا ان يقوم طرف ثالث بمحاولة الربط في ما بينها>>. ويشير إلى أن قوته نجحت الى حد ما في المهمة التي نذرت نفسها لها، إلا أن القرار الدولي ما زال موضع نزاع <<فقلنا انه بصرف النظر عن مضمون القرار الذي نعارضه وهو ينطوي على تدخل في شؤوننا الداخلية سواء بموضوع سلاح المقاومة او المخيمات وبغض الطرف عن مخالفته لاتفاق الطائف لجهة الانسحاب السوري حيث نص الطائف على آلية معينة. الطائف كان ينص على الانسحاب تمهيدا لوضع اتفاق بين لبنان وسوريا بعد الانسحاب إلى البقاع يتضمن ثلاثة أمور: أولا تحديد حجم القوة التي ستعيد الانتشار إلى البقاع، ثانيا طبيعة العلاقة بين لبنان وسوريا وثالثا مدة بقاء القوات القابلة للتجديد، الا ان القرار 1559 جاء ليقول بالانسحاب الفوري بما يتعارض والطائف وبرغم ذلك بات يتمتع الآن بالشرعية الدولية ولنا مصلحة استراتيجية في تنفيذ قرارات الشرعية الدولية كافة ابتداء بالقرار 194 مرورا بالقرار 242>>. نحن لنا مصلحة استراتيجية بتنفيذ كل القرارات الدولية.

ويلفت إلى انه أرسل كتابا العام 2000 إلى الأمم المتحدة يشير فيه إلى أن القرار 425 لم ينفذ بالكامل لان مزارع شبعا ما زالت محتلة <<فأتاني الجواب أن منطقة مزارع شبعا قد احتلت بالتزامن مع احتلال مرتفعات الجولان المحتل العام 1967 أو بعدها بقليل>>. ويرى الحص <<انه ليس في امكاننا أن نكون انتقائيين على صعيد قبول بعض القرارات الدولية ورفض البعض الآخر ولكننا في الإطار نفسه نطالب اميركا وفرنسا والأمم المتحدة بعدم الانتقائية أيضا ونقول لهم: عليكم أن تعدونا ببرمجة زمنية لتطبيق متزامن للقرارات الدولية كافة بما في ذلك القرار 1559 ونحن بهذه الطريقة نتوصل إلى الطريقة المثلى لتوحيد اللبنانيين كافة ولتوحيد الموقفين اللبناني والسوري>>.

ويشير الحص إلى <<أننا لم ننجح على الصعيد اللبناني الداخلي، بل نجحنا على صعيد القمة اللبنانية السورية وقد أعلنت القمة الأخيرة التي اجتمعت تحت لافتة المجلس الأعلى واتخذت قرارا صريحا باحترامها لقرارات الشرعية الدولية كافة بما فيها ال1559 وأشارت إلى عدم قبولها بالانتقائية، لكن مع الأسف لم تتم متابعة القضية من قبل البلدين فعدنا بذلك إلى نقطة الصفر>>.
وساطة القوة الثالثة وحول الوساطة التي قادها بين الافرقاء المختلفين على الساحة، قال الحص <<لقد توجهنا كقوة ثالثة نحو كتلة الإصلاح والتغيير بزعامة النائب ميشال عون وسألناه صراحة: لماذا لا تعلن تأييدك لكل القرارات الدولية بما فيها 1559 و242 و194، فإذا أعلنت موافقتك على هذه القرارات الدولية نحن كفيلون بتقريب وجهات النظر مع (الأمين العام ل<<حزب الله>>) السيد حسن نصر الله، فكان عون ايجابيا إلى أقصى درجة. فتوجهنا بالسؤال نفسه إلى السيد نصر الله فكان بالإيجابية نفسها وتم تقريب وجهات النظر في ذلك الحين بين الطرفين وقد مثل ذلك تقدما سجلناه على هذا الصعيد>>.

وردا على سؤال حول عدم شمول المبادرة رئيس حزب <<القوات اللبنانية>> الدكتور سمير جعجع، ذكّر الحص بتحفظه على قانون العفو وقال <<إذا تلا جعجع فعل ندامة واعتذار في موضوع جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رشيد كرامي، فأنا مستعد لزيارته>>.

وأعلن الحص تأييده للقرار 1595 وقال <<سنقوم بكل ما نستطيع لتسهيل التحقيق في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وتذليل كل الصعوبات، اما في موضوع المحاكمة الدولية، فهناك فاصل زمني قد تمدد لجنة التحقيق عملها خلاله ربما لاكثر من مرة حسب مجلس الامن الدولي قبل أن تباشر المحكمة مهمتها، ونستطيع في خلال هذا الوقت الطويل ان نتحاور بصدق للتوصل الى صيغة توافقية ولا داعي لافتعال مشكلة الآن في هذا الفاصل الزمني>>.

استقالة لحود

لكن الرئيس الحص يشير الى قضية خلافية اخرى تشغل الاوساط كافة في البلاد وتتمثل في الحملة على الرئيس العماد اميل لحود ودعوته الى الاستقالة، ويلفت في هذا الاطار الى ان الذين يطالبون لحود بالاستقالة اليوم هم انفسهم الذين مددوا له قبل عام!

ويقول <<نحن في حاجة الى التغيير السياسي في البلاد قبل الوصول الى حال اليأس في البلاد، ولقد فتحنا كوة على هذا الصعيد وقلنا في مبادرتنا: فليعلن الرئيس استعداده للتنحي في موقف وطني يحفظ المصلحة الوطنية عبر التوصل الى قانون انتخابات عادل في رأينا انه يجب ان يستند الى قانون المحافظات الخمس على قاعدة التمثيل النسبي ووضع ضوابط للعملية الانتخابية أي تحديد سقف للإنفاق الانتخابي وتنظيم عملية الاعلام والاعلان الانتخابي من دون هيمنة من احد. وبعد أن يصدر قانون الانتخاب العادل الذي سيكون البند الاخير فيه كما كان العام 1992 انهاء ولاية المجلس، يتم بعد اربعة اشهر من صدوره انجاز عملية انتخاب مجلس جديد ثم رئيس جديد للجمهورية وحكومة جديدة على طريق تبديل المشهد السياسي بالكامل>>.

وعند سؤاله عن رد لحود على العرض، يرد الحص: <<لم نسمع أي رد منه حتى الآن>>. ويشير الى ان لحود يصبح قويا اذا مضى في الاقتراح ليمتلك الحق بكامله في وجه خصومه الذين سيتحملون بدورهم المسؤولية>>.

ولا يقر الحص بأية مثالية وراء طرحه، اذ يشدد على ان لكل دوره الذي يجب عليه القيام به وعدم التوقف عند اطلاق الموقف بل التحرك على الساحة من اجله والإصرار عليه، ويشدد على ان لا إصلاح في البلد من دون مصلحين، مقرّاً بصعوبة المهمة مع اعترافه ان لا اصلاح من دون ان يكون على حساب مصالح الطبقة السياسية معولا على هذا الصعيد على اهمية الضغط الذي من الممكن ان يمثله الرأي العام في هذا المجال لكي يتحقق التغيير.

أهداف واشنطن

ويلفت الرئيس الحص ردا على سؤال حول إمكانية فشل المبادرة، الى ان المبادرات الاخرى التي تقدم في الوقت الحالي تدعو الى إقامة حوار وطني مما يمثل ادانة للنظام اللبناني الذي يفتقد الى آلية من هذا النوع على عكس البلدان الديموقراطية في العالم التي لا تشهد أزمات وطنية، ليخلص ان <<نظامنا غير ديموقراطي ولذلك نقول: غيّروا المشهد السياسي وعندها سيتحقق الحوار بشكل آلي وطبيعي من داخل المجلس النيابي وباقي المؤسسات الدستورية. الازمة التي يعيشها لبنان انست اللبنانيين قضاياهم الحقيقية وأزماتهم الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية والتي ما زالت تتفاقم مع مرور الوقت>>.

ويبدي الحص خشيته من <<تأثر لبنان بحالة الفوضى البنّاءة او الخلاقة المقصودة التي تجتاح المنطقة من طريق القوة العظمى الوحيدة في العالم التي تعبث فيها والتي شنت حربين كاذبتين عليها والتي لا ترى بلادها سوى من زاوية مشروعها للشرق الاوسط الكبير>>. ويرى ان الادارة الاميركية تهدف من وراء هذا المشروع للقضاء على العروبة عبر سلخها بعض البلاد العربية عنه وضم بلاد اخرى غير عربية اليه، <<لان العروبة ما زالت تشكل حاجزا صلبا امام المشاريع الاسرائيلية والاميركية في المنطقة ولهذا تم احتلال العراق>>. كما يعتبر ان الادارة الاميركية تهدف ايضا من وراء هذا المشروع الى <<تسليط الكيان الصهيوني علينا بهدف خلق ما يسمى بالفوضى البناءة او الخلاقة في مجتمعاتنا لتفتيت كيانات المنطقة كافة وإبقائها متصارعة ومتناحرة في الوقت الذي يبقى فيه الكيان الصهيوني هو الاقوى>>. ويلفت على هذا الصعيد الى ان <<المشروع الاميركي التقسيمي اذا لم يكن قد نجح في العراق فإنه قد ينجح في لبنان حيث قد يكون للعصبيات اخطار جسيمة جدا>>. ويقول الحص ان لبنان عبارة عن حي في ولاية نيويورك التي تعد 18 مليون نسمة، ولكن برغم ذلك استطاع بموقفه الوطني الموحد من القرار 1559 هزيمة موقف الدولة العظمى.

الوحدة الوطنية ضرورة لا يمل الحص من تكرار لازمة ان الوحدة الوطنية هي الطريق الى كل حل وإلى كل مستقبل، ويؤكد أن هذه الوحدة هي التي افشلت تنفيذ ال1559 <<وهم عجزوا عن ذلك لانه قرار ضد الارادة اللبنانية بعد ان اعلن جميع الافرقاء اعتبارهم سلاح <<حزب الله>> شأنا داخليا>>. وأكد ان الحزب لن يدخل أي حوار طالما كان الهدف منه نزع سلاحه ودعا الى التوفيق بين المشكلة والقضية <<وعندها فقط يحصل الحوار بحيث نوفق بين قدرة لبنان على المقاومة ونطمئن المتخوفين>>. لكنه يشير الى ان ثمة نفاقا بين بعض الافرقاء على الساحة اللبنانية ويلفت الى ان الحوار يجب ان يتم من ضمن المؤسسات الدستورية ويعول من جديد في هذا الاطار على الرأي العام للضغط اذا ما تم ذلك.

العلاقة مع سوريا

في هذا المجال، يرفض الحص بشدة أي مس بالعلاقة مع سوريا ويمقت أي عمل لمحاولة اسقاط النظام في دمشق ثمنا للحقيقة ويوافق على ادانة من يدينه التحقيق الدولي فور انتهائه، الا انه يستبعد في حالة الادانة في جريمة اغتيال الرئيس الحريري، ان يتم ذلك بحق سوريا كدولة بل في حق افراد فيها. ويقول ان ادانة سوريا الدولة تعني في الوقت نفسه ادانة لبنان الدولة. لكن الحص يسأل في المقابل، <<بأي منطق يسقط من الحساب احتمال ان تكون اسرائيل هي التي ترتكب الجرائم في لبنان لاتهام سوريا؟!>>.

ويرى ان العلاقة بين لبنان وسوريا <<غير صحية>> في الوقت الحالي، ويدعو الى عمل جدي لكي تعود الى التميز ويشدد على ضرورة عقد لقاءات لمسؤولي البلدين في اطار هيئة التنسيق العليا التي تمهد بدورها لعقد اجتماعات المجلس الأعلى اللبناني السوري في موازاة لقاءات على مستوى الوزراء المعنيين في كلا البلدين ما سيؤدي حتما إلى تنقية الأجواء.

ويتهم الحص قوى دولية بالوقوف وراء تشنج العلاقات بين لبنان وسوريا، لكنه يؤكد في المقابل انه لن يكون في لبنان من يقف حائلا أمام تصحيح العلاقات مع دمشق على أساس الندية والتوافق.

لا انقلاب للأكثرية

يؤكد الحص ان يد الاكثرية في البلاد <<التي ما زال البعض منها يرى نفسه معارضا>>، غير مطلقة وبالتالي فلا انقلاب على سياسات البلد السابقة وإن حصل تفوق نسبي على الصعيد الشعبي. ويشدد على أن <<القوة الثالثة>> تهدف لاقامة مشروع مشترك في إمكانه إحداث الانقلاب الإيجابي المطلوب على الساحة.