السفير /جوزف سماحة

سبقت أميركا الوسطى والجنوبية العرب في الموقف السلبي من <<اليانكي>>. عندما كانوا، هناك، يعانون من سياسة الولايات المتحدة، وتدخلاتها، وانقلاباتها، وغزواتها، وجشع شركاتها، كانت تلك البلاد بعيدة عنا. وعندما بدأ الاحتكاك العربي الأميركي كانت الاتصالات الأولى تميل إلى الإيجابية. كنا نعاني، هنا، من الاستعمار الأوروبي وبدت القوة الأميركية أقرب إلى ما تكون قوة تحريرية. لقد كان شبه مستحيل، مثلاً، إقناع ثوار الجزائر بالعكس. وقبلهم كانت ثورة <<الضباط الأحرار>> في مصر ميالة إلى التعاطي الإيجابي مع البلد القوي والبعيد. إلا أن تطورات الخمسينيات، بعد نشوء إسرائيل، وبعد <<وراثة>> أميركا لكل من بريطانيا وفرنسا، قلبت هذه الاتجاهات. لقد بادأتنا الولايات المتحدة بالعداء وهي مستمرة ومزدادة عدوانية.

كان يمكن القول، قبل سنوات، إن المزاج الشعبي في العالم العربي وفي أميركا اللاتينية، <<معاد>> للسياسة الخارجية الأميركية. ومع أنه في الإمكان القول، اليوم، إن المزاج الشعبي في العالم كله أصبح سلبياً حيال إدارة جورج بوش، يبقى أن هذه السلبية هي الأكثر تجذراً في جنوب القارة الأميركية وفي منطقتنا.

إن هذه الملاحظة هي التي كانت تشجع على القول إن أي انفتاح ديموقراطي، ولو حصل نتيجة ضغط أميركي جزئي، لن يفعل سوى تأمين اشتراك جمهور أوسع في مقاومة السياسة الأميركية. وما يجري هذه الأيام، هنا وهناك، يوفر مصداقية متزايدة لهذه الملاحظة.

يمكن الزعم أن المقارنة تتوقف هنا. إن الانتخابات المتتالية التي تشهدها بلادنا تشير، في كل مرة، إلى تقدم التيارات الإسلامية الأصولية على تباين أصولياتها وبرامجها. وإذا كانت هذه التيارات تتقدم فلأسباب عديدة بينها أن انكسار مشاريع التنمية ذات التوجه <<الاشتراكي>>، وسياسات السلطات المحافظة، جعلت من هذه التيارات مستودع الشعور بأنه لا بد من قدر من الممانعة. ثمة أسباب كثيرة جعلت الصيغة الأكثر احتمالاً وشعبية للتعبير عن النفس وقول رأي هي تلك التي تغلّب الجانب الثقافي والحضاري وتدفع إلى الوراء القضايا الاقتصادية والاجتماعية.

أما ما يحصل في أميركا الوسطى والجنوبية فمختلف. فبعد انهيار الديكتاتوريات، وبعد سنوات من السياسات الليبرالية الجامحة، بتنا نشهد مداً لنوع جديد من القوى السياسية يتميّز بالتالي:

1 - ثمة صعود لتيارات تريد وضع حد للنيو ليبرالية التي أدت إلى زيادة التفارق الاجتماعي في بلدان تعاني منه أصلاً.

2 - تنتظم هذه التيارات في أحزاب من نوع جديد. إنها أقرب ما تكون إلى فدراليات تضم نقابات عمالية وفلاحية، ومثقفين وأكاديميين، وفئات متنورة من الطبقة الوسطى.

3- برزت القضية الثقافية في هذه التيارات بصفتها تجديد الاعتراف بالثقافات المحلية، وبإعادة اكتشاف البُعد الهندي الأصلي، وبالتركيز على التعددية. ويمكن القول، في هذا المجال، إن ماركوس، على رأس الزاباتيين، لعب دوراً حاسماً في هذا المجال، أي في استثمار مفاعيل العولمة النيو ليبرالية لجهة الآثار الاجتماعية ولجهة استفزاز الهويات المحلية وإدراج بروزها في سياق أوسع.

4 - تجدد الخطاب النقدي للجار الشمالي ولسياسته التعسفية في <<الحديقة الخلفية>>. ونجح هذا الخطاب النقدي في تقديم توليفة تجعل الدعوة إلى العدالة روح التطلب الوطني الاستقلالي. فمن كاسترو، نعم كاسترو، إلى شافيز، يستحيل الفصل بين الداخل <<الاشتراكي>> والخارج السلبي حيال واشنطن وماضيها. إن <<اشتراكية>> أميركا الجنوبية هي الترجمة الواضحة للعزة الوطنية.

5 - إن التحوّل يتم بوسائل ديموقراطية حصراً ويشارك فيه، في غير بلد، قادة وكوادر غادروا حرب العصابات والغوار. لا بل يبدو هناك، أكثر من أي مكان آخر، أن الارتداد عن الديموقراطية هو التهمة الموجهة إلى طبقات حاكمة فاسدة لم تعد تستطيع تأمين القاعدة الاجتماعية المطلوبة لسلطات النهب الداخلي والالتحاق وتشريع ثروات البلاد أمام الشركات الدولية.

يندرج الانتصار الكبير الذي حققه إيفو موراليس في هذا السياق. سياق الاحتجاج على تحالف الأقلية المستفيدة مع الشركات العابرة للقارات، سياق الاحتجاج الديموقراطي على التمييز الإثني، سياق الاحتجاج على التدخلات الإمبريالية الأميركية، سياسة الدفاع عن الثقافات المحلية وارتباطها بأشكال وأنواع إنتاج محددة. لقد صعد الفلاح، النقابي، الهندي بسرعة نسبية واستطاع مفاجأة الجميع.

وإذا كانت أميركا الوسطى واللاتينية ستشهد في 2006 ما لا يقل عن عشر دورات انتخابية، فإنه من المقدر أن ينتهي العام وقد مال نصف القارة، بمعظمه، إلى اليسار وإلى البحث عن علاقات بينية تقيه شرور الجار الشمالي.

إلا أن اليسار المشار إليه يسار تعددي. كاسترو ليس مثل شافيز، ولولا ليس مثل موراليس، وأندريس مانويل لوبيز أوبرادور ليس مثل نيستور كيرشنر... لكل من هؤلاء تجربته، ولكل بلد ظروفه ومشاكله وإمكاناته، ولكن الخط الجامع أقوى من الفروقات.

إن العدالة هي في صلب هذا الخط الجامع. ولكن يجب أن نضيف إليها أن موراليس عندما خاطب كاسترو قبل يومين تحدث بتركيز عن <<الكرامة والسيادة>>.

إن الكرامة والسيادة، فضلاً عن العدالة، هي ما ينقصنا في هذا العالم العربي. يبدو أن أميركا الوسطى والجنوبية ستسبقنا إليها.