النهار / ياسين الحاج صالح

نبل وظائف الثقافة توليد المعاني التي تحمي الحياة، أي نصب الحواجز الفكرية والأخلاقية والجمالية التي تجعل الاعتداء على الحياة أو الانتقاص منها أو العبث بها صعبا. تضاف إلى هذه حواجز قانونية واجتماعية ومؤسسية وسياسية تضبط التنازع المحتمل بين الناس في حدود رعاية الحياة واحترامها، أي صون حرمتها. تنتصب حواجز الدفاع الأولى عن الحياة في وجدان الفرد وضميره، فيما تنتصب الثانية حوله. إن قيم العدالة والإنسانية والسلام والمساواة والحرية من جهة، ومفاهيم الحق والسلم الاجتماعي والتفاهم بين البشر والدولة والسياسة من جهة أخرى، هي حراس لحياتنا، أكثر أمانة من الحرس المدجج بالسلاح لحماية أصحاب السلطة والمال.

أمننا هو استقرار تلك المعاني ووضوحها واستقلالها، أي عدم انفراد أي طرف اجتماعي أو سياسي بعينه بتحديد معاني الكلمات الأساسية. فاحتكار المعاني مثل احتكار السلطة، يفتح باب الاستبداد بالناس والاعتداء على حيواتهم. وعادة يسير الاحتكاران معا، وتستخدم السلطة احتكار المعاني أو اللغة لتسييج نفسها وضمان أمنها هي وجعل الاعتداء عليها مستحيلا. إن السلطة غير التعاقدية والمعاني غير التعاقدية صنوان، يلقيان التعزيز من بعضهما.

الكلمة الأشهر التي تتكثف فيها هذه عملية الاستيلاء على المعاني هذه في لغتنا العربية هي كلمة امن ذاتها. فهي الجذر المشترك لمعاني الإيمان والأمانة والأمان، فيما يرتبط الدال "أمن" في تداولنا الجاري بمعاني الخوف والقسوة والغدر والخيانة. والمؤسسة الأمنية، بالأصح الجهاز الأمني، هو مصدر هلع ونزع للأمن وتوطين للخوف في قلوب الناس.

لقد أتاح التلاعب بالمعنى العبث بالأمن والحياة. يلزم قتل المعاني أولا من اجل أن يسهل قتل البشر، ويتعين تعذيب المفاهيم لتطبيع تعذيب الناس. مثل ذلك ينطبق على دال "إعلام" الذي تشع حزمة دلالاته على مدركات العلم والتعلم والمعلومات. ينطبق أيضا على الوطن، على الشعب، على الاشتراكية. والتعذيب الذي مورس بحق مفهومي العروبة والديموقراطية قد يفوق التعذيب الذي أخضع له عروبيون وديموقراطيون في بلاد عربية كثيرة.

ورغم أنه ليس لتلك الدوال معان ثابتة لا تتغير، فإن هذا لا يعني أنها قابلة لكل معنى. ومشكلة المعاني لا تتمثل في تقديرنا في عدم ثباتها بحد ذاته، بل بالأحرى في نظام عدم ثباتها إن جاز التعبير، أعني في أصول ومنطق ووظيفة اللاثبات هذا. وهو ما يحيل بدوره إلى "نظام إنتاج المعاني"، أعني كيفية تحديدها وضبطها وتعميمها وإصلاحها، والتفاعلات الاجتماعية المتصلة بهذه العمليات. والفارق الأساسي هو بين نظامين لإنتاج المعاني: حر، واحتكاري. المعنى "المحكم" هو المعنى الحر العمومي، أي الذي يحدده الناس جميعا بحرية. فيما المعنى "المتشابه" (إذا استعدنا تمييزا قرآنيا) أو المشوش منبعه الانفراد بصنع المعاني أو احتكارها.

وما تتعين ملاحظته أن المعنى مرفق عمومي، بل هو أساس العمومية، واحتكار المعاني يقوض العمومية والشراكة الاجتماعية ويشوش المعاني في الوقت نفسه. والقصد أن لا ثبات المعاني، أو تشوشها، لا علاقة له باندفاعة الحياة وعنفوانها، بل هو متصل بنظام احتكاري لإنتاجها، نظام معني بدوامه واستقراره، أولا وقبل كل شيء.

يقوض تشوش المعاني الوظيفة "الأمني" الحيوية للثقافة، أعني وظيفتها كحاجز في وجه الاستبداد والفوضى والبلبلة والبابلية. الوضوح والأمان حليفان، وبالقدر نفسه التشوش واللاأمن حليفان.

لا ينجح في التحكم بنا والاستبداد بأمرنا وقتلنا إلا من يكون قد خرب تلك الحواجز الثقافية والمعنوية واللغوية والسياسية التي تحمينا من عدوان القسوة والفوضى.

تخطر بالبال هذه التأملات في مواجهة الموت المزدهر في مجالنا المشرقي. ما كان لآلة الموت أن تشتغل بهذه الدرجة من الحصانة والأمان لولا نجاحها قبل ذلك في قتل المعاني الرادعة. ما كان لجبران تويني، وقبله سمير قصير وجورج حاوي ورفيق الحريري ورفاقه، أن يقتلوا لو كانت معاني العدالة والحرية والحقيقة والاختلاف، وكذلك الاستقلال والأمن والإعلام والرأي والحوار، معان مستقلة، "محكمة"، وحرة. بل ما كان لجبران أن يقتل بهذا الأسلوب الحقود لو كان معنى السياسة سليما، لم يعبث به عابثون من كل نوع.

وما كان للتعذيب أن يؤْلف وللسجن أن يَعْمر لو كانت الكلمات التي تحمينا حافظت على حصانتها وإحكامها. وقبل كل شيء، ما كان للتبعثر والانفراط الاجتماعي أن يكون ميسورا على نظم الطغيان لو لم تكن تمكنت، قبل ذلك، من "تأميم" نظام إنتاج المعاني وتحويله من مرفق عمومي إلى سلاح دمار شامل خصوصي في ترسانات الإقطاعيين الجدد. ولعله في كلمة تأميم، المشتقة من امة، تتكثف التحولات السياسية والفكرية والنفسية والمعنوية التي أمدت الإقطاعيين الجدد بسلطات وثروات ونفوذ لم يحلم بمثلها لا الإقطاعيون القدامي ولا الرأسماليون المعاصرون. لم يكن "التأميم" نزع ملكية الثروات من خواص وتمليكها للأمة، بل نقل ملكية الأمة والثروات إلى أهل السلطة، ونزع الحصانة عن الأمة وتجريدها من الشخصية والاستقلال والمبادرة الذاتية. التأميم بالضبط نزع "أموية" الأمة أو ذاتيتها، كما ينزع الدسم من الحليب. ومعلوم أن ثقافتنا وسياستنا تواطأتا مع "التأميم"، مع تعقيم حليب الأمة وتعريتها وضرب كرامتها وحرمتها. لقد ساهمت العقيدة التأميمية في تحطيم الحواجز التي جعلت القتل والتعذيب ممكنا وطبيعيا و..مرغوبا. وهي لا تكاد تنكر عداءها للحرية ووضعها في تناقض مع العمومية التأميمية، مع ذلك النوع من العمومية الذي يمسك أهل السلطة أو أهل "الحزب" أو أهل "العلم" أو أهل "الحق"، بمفاتيحه. ولا يزال تيار التأميم، أي الاستبداد، في ثقافتنا أقوى من تيار الحرية.

إن الحرية هي مرفق المرافق العمومية. والتحرير هو نقيض التأميم، الذي تعبدت له ثقافتنا وسياستنا طوال عقود. وهو الذي يعيد للأمة شخصيتها واستقلالها.

في كل موت عنيف جديد هزيمة جديدة للثقافة للسياسة في بلادنا. إنه إعلان عدم صلاحيتهما لحماية الناس، وهو مؤشر على الحاجة إلى إعادة بنائهما. بل قد يمكن القول إن بعض ثقافتنا تعمل لحساب الموت، وبعض سياستنا تتواطأ معه.

إعادة الاعتبار للحياة، وحمايتها من القتل والعنف والتعذيب، يقتضي بناء حصانات وحرمات وحواجز جديدة، فكرية وأخلاقية وقانونية، وبالتأكيد سياسية ايضا. إن مهمة الثقافة اليوم، في لبنان وسوريا والبلاد العربية، هي تشكيل جبهة ضد الموت، جبهة للدفاع عن المجتمع والمواطنين ضد قوى الموت والعنف