الخليج / عزمي بشارة

في سياق استراتيجية شاملة لحركة تحرر كان من المفترض ان يستغرب كل عاقل، بل أن يستهجن قرار إجراء انتخابات تمهيدية “برايمريز” لاختيار مرشحي حركة فتح لانتخابات المجلس التشريعي في الداخل الفلسطيني. ففي جعبة فتح طرق أخرى أكثر انضباطا لاختيار قائمة مرشحين. وحتى في أعتى الديمقراطيات ذات التقاليد وحتى بنظر أحزاب تاريخية تعتبر الانتخابات التمهيدية على مستوى القواعد الاجتماعية الواسعة بعد الاكتتاب لحركة سياسية هزة للنظام الحزبي قد تعرضه للخطر. وقد تراجعت عنها أحزاب تاريخية في ديمقراطيات برلمانية بعد أن جربتها لفترات كانت كافية لتهددها.

فهي بطبيعتها مكلفة، وتتيح الفرصة للمال وللإعلام والبروز الإعلامي لخدمة مرشح ضد آخر خاصة وان انتخابات بهذا الاتساع حتى داخل الحزب تصبح بحاجة الى تمويل، والى إعلام والى شعبوية ومزايدات داخل نفس الحزب، بحيث يحتل منطق التنافس بين الأحزاب التنافس داخل الحزب ذاته. كما تتيح الانتخابات التمهيدية “برايمريز” الفرصة لطمس حدود الأحزاب ولاختلاط الحزب بالعشيرة والحمولة على المستوى المحلي اذ يجيش كل مرشح ما يستطيع من مكتتبين منتسبين موسميين للحزب لا علاقة لهم به وبنهجه وخطه لكي يقوي نفوذه داخله. وقد يشمل التجييش كما أسلفنا أفرادا لا يجمعهم بالحزب جامع بل قد لا يمنحون الحزب حتى أصواتهم في الانتخابات ذاتها. ولذلك تخلت حتى أحزاب تاريخية كبيرة عن الانتخابات التمهيدية واستبدلتها بالعودة إلى مؤتمر الحزب او هيئات موسعة أخرى.

إذا كان التنافس بين أحزاب تنافساً بين مواقف فإن الانتخابات التمهيدية لا تتيح الاختيار بناء على معيار أي المرشحين أفضل تمثيلا لموقف الحزب، بل هي تحيد الموقف تماما من معايير التنافس، كما تحيد المساواة في الفرص بين أعضاء وقيادات الحزب ذاته.

على كل حال يصلح الموضوع نظريا كمجرد مثل عن ان وسائل الاختيار بما فيها الانتخابات التمهيدية ليست ديمقراطية بذاتها، بل تحدد مدى ديمقراطيتها بمدى خدمتها لقضية الديمقراطية أو بوجود أو غياب سياق ديمقراطي. ويصح أن نعتبر خطوات مثل الانتخابات التمهيدية تبدو في سياق معين “سوبر ديمقراطية” إعاقة للتحول الديمقراطي في سياق آخر، مثلا إذا هددت بنية الأحزاب واستبدلتها ببنية العشيرة أو القبيلة.

وفي حالة فتح اختلط الحابل بالنابل فعلا. فمن ناحية لم يتم التحرر من الاحتلال بعد ولم تنجز مهمات التحرر الوطني الكبرى، ولم تقم حتى دولة ذات سيادة، ولا حتى بالمفهوم الامريكي، ومن ناحية أخرى اختيرت طريقة انتخابات تمهيدية تصلح لتنظيم، هو حزب سلطة ثابت تحول بعد مرحلة في الحكم إلى أشخاص يتنافسون على سلطة. هكذا اضطر حتى المناضلون إلى الاستعانة بحيثياتهم المحلية الاجتماعية ركيزة يستندون إليها في تنافس مفتوح بهذا الشكل، ومفتت الى مستوى مناطق منقسمة على ذاتها تقليديا وعشائريا.

من ناحية جرى الحديث عن حسم ديمقراطي بين اشخاص في نفس التنظيم الذي يحمل نفس البرنامج وحملت القوائم التي رتبت ك “بلوك” انتخابي نبرة او لهجة سياسية. ومن ناحية أخرى بدا أحيانا أن ما يجمعها هو الجيل أو الموقع أو التكتيك ضد الخصم المشترك داخل الحركة وان السياسة أمر ثانوي. وهكذا تم في نظر الكثيرين إخفاء أكثر الأمزجة السياسية استعدادا للتسوية والمساومة في مرحلة شارون خلف ما بدا أحيانا الأكثر ميدانية والأكثر نضالية. ويبدو انه لا تناقض بين الميدانية والمرونة في الاستعداد للتسوية. ولا تناقض بين البيروقراطية والتشدد في المفاوضات.

وتحالف الرئيس مع من يعتبرهم خصوما سياسيين لمجرد انهم في الهيئات الرسمية التاريخية وبدا كأنه يخاصم الأقرب سياسيا إليه في مسألة التسوية ويعترض على شركاء طريق في الجهد لضرب البنية الموروثة من مرحلة عرفات. ولا احد يعلم أي الأمرين أكثر جدية ما يبدو تحالفا أم خصاما.

ولم تسفر انتخابات فتح التمهيدية عن انتصار “تيار” ضد آخر، ولا حتى الخارج ضد الداخل، أو القواعد من قيادات الانتفاضة الأولى ضد الهيئات المركزية الموروثة من مرحلة ياسر عرفات بل أسفرت عن قائمتين سوف تسفران بدورهما عن حل وسط بعد تأجيل موعد الانتخابات برغبة أمريكية تقاطعت مع رغبة أخرى بالتأجيل ناجمة عن ضرورة توحيد الحركة.

ومن الواضح ان مشروع الانتخابات ليس اختيار هيئات حركة تحرر بل تنافس على انتخاب هيئات حزب سلطة يتم فيها استنفار كافة الانتماءات لغرض النجاح. وهو ليس حزب سلطة في دولة مستقلة، بل سلطة خاضعة لإيقاع المفاوضات “الإسرائيلية”.

لم تطرح في انتخابات فتح التمهيدية مسألة استراتيجية النضال ضد إسرائيل كأمر جوهري، بل كيفية إدارة سلطة تبدي ممانعة عينية في إطار انصياع عام لقواعد اللعبة التي تحفظها كسلطة. أما النهج النضالي فتبعثر إلى مجموعات مسلحة تبحث عمن يتبناها لغرض الاستمرار في نهج أصبح أفرادها أسرى له خارج العملية السياسية الاجتماعية الجارية، أو اصبحوا رهائن مطلب استيعابهم فيها بالتوظيف في أجهزة أمنية لغرض التوقف عن هذا النهج. وتقتحم هذه المجموعات ذاكرة الناس في احتلال مبان وعمليات خطف، إذ يخشى أفرادها الذي حملوا دمهم على أكفهم أن يطويهم النسيان في خضم أعراس تقسيم الغنائم الانتخابية. ويصر البعض على تسمية هذه الظاهرة المأساوية ظاهرة فوضى السلاح. حسنا، لا بأس بالتسمية إذا انتبهنا أنها لا تبقي منهم إلا إزعاجا للاستقرار الاجتماعي. ولكن ماذا تطرح مؤسسات تنتشر كالفطريات ممولة من الخارج كبديل نضالي منظم مقابل هذه الفوضى؟

وليس مصير اليسار بأفضل من هذا المصير فهو لم ينجح في ترتيب بديل موحد مقابل هذه الحالة المأزومة. فهو أولا ليس حزب سلطة يتوحد دفاعا عن مصالحه قبل أن يخسرها. وهو ثانيا لا يطرح استراتيجية بديلة من منطلق معارضة نهج السلطة. ولا ادري لماذا تعتبر كل قائمة ليست فتح ولا حماس قائمة يسار. فمن القوائم الأربع التي لم تنجح في تشكيل “قطب ثالث” قوائم يسارية الطابع، ومنها من هي أكثر استعداد للتسوية من فتح وأكثر يمينية من الناحية الاجتماعية وأكثر اعتمادا على حسن النية الأمريكية في النهج الذي تمثل. وغالبية هذه القوائم تعارض الكفاح المسلح ولا تطرح نهج مقاومة بديلاً كما يفترض باليسار أن يطرح. والحقيقة أن كلمة يسار تستخدم مؤخرا بشكل لافت في العالم العربي لوصف حركات ونهج متحالف مع السياسة الأمريكية إقليميا ويتبنى سياسات اقتصادية نيولبرالية وليس فيها من اليسار الا العلمانية. وهي من سمات اليسار لا شك بذلك. ولكنها لا تكفي لتعريف موقف يساري، فهنالك يمين علماني.

والمهم أن اثنتي عشرة قائمة تقدمت لخوض انتخابات المجلس التشريعي في كيان سياسي ليس دولة وتوقف عن التصرف كحركة تحرر. وليس بالإمكان التعامل مع هذه التعددية كتعددية حزبية ديمقراطية بل ظاهرة أزمة فصائل لم تحل محلها تعددية حزبية ديمقراطية بعد.

في هذه الظروف يعود الكونجرس الى تذكيرنا بجوهر هذه اللعبة برمتها. فهو يستجيب لضغط اللوبي الصهيوني ويهدد السلطة الفلسطينية بوقف المعونات المالية إذا سمح لحركة حماس بخوض الانتخابات البرلمانية، وهذا اصلا موقف شارون الذي يظهر فيه وحيدا في البداية. ويتبعه خافير سولانا مهددا متوعدا. ويبدو أن الاحتلال يحكم حتى إيقاع لعبة الانتخابات. ولا شك ان رفض هذه القوى الدولية التي تتفاعل وتتجاوب مع “إسرائيل” في المنطقة مثل تفاعل سلسلة كيماوية لخوض حماس الانتخابات التشريعية لا ينبع من كون حماس غير ديمقراطية، بل لأنها تتنافى في نهجها الرافض للبنية الحالية ولنهج التسوية الحالي مع الكيان الذي تخوض فيه الانتخابات. فهي تخوض انتخابات السلطة ولا ترغب بالوصول إلى السلطة في إطار تسوية تعارضها.

تشجع نفس القوى الدولية حركات اسلامية في دول عربية على خوض الانتخابات وتعتبر الأمر حيويا لكي تقوم هذه الحركات بإصلاح موقفها تدريجيا من الديمقراطية ولكي يتم فرض نوع من الإصلاح على حلفاء أمريكا غير الديمقراطيين. ومن يدري ربما تأمل تحالفا مستقبليا مع نمط من الإسلام “المعتدل سياسيا” والذي يتم التسامح مؤقتا مع تطرفه اجتماعيا.

في دولة مستقلة يجوز أن تسأل حماس وغيرها عن موقفها من الديمقراطية والمواطنة وقيمها قبل السماح لها بخوض الانتخابات كي يضمن احترامها للديمقراطية وقيمها بعد فوزها من منطلق مبدأ الديمقراطية للديمقراطيين. ولكن ليس هذا هو السياق. فالناس تختار حماس لنفس اسباب اختيار الإسلام السياسي عربيا خاصة بعد العام ،1967 يضاف اليه منذ نهاية الانتفاضة الثانية اختيار نهج الممانعة وضد الفساد وكجزء من أزمة حركة التحرر الوطني وضد السلطة بعد أوسلو وضد الغرب وضد “اسرائيل” وغيرها من أسباب قوة الإسلام السياسي في الحالة الفلسطينية.

لقد حسبت “اسرائيل” في الماضي أن الضغط على المجتمع الفلسطيني بالقصف والعقوبات الجماعية مثلا في اعقاب كل عملية لحماس سوف يؤدي الى ضغط مقابل من المجتمع الفلسطيني على حماس. وهذا ما يجوز ان نطلق عليه اسم “نظرية جباليا وبيت حانون” عند “إسرائيل”. فقد حاولت الأخيرة أن تشدد قبضتها ووطأتها على هذين التجمعين نتيجة لإطلاق قذائف منهما، وكثرت البرامج التلفزيونية “الإسرائيلية” والتحقيقات الصحافية عن تخلي سكان البلدين وتبرمهما من نشاط حماس وعواقبه ليتبين عكس ذلك في الانتخابات البلدية. ولا شك أن مصير التهديد الأمريكي والأوروبي في الانتخابات التشريعية لن يكون أفضل.

لم ينفضح زيف الموقف الأمريكي من الديمقراطية في هذه التهديدات والخطوات. فالحديث هنا ليس عن ديمقراطية اصلا، ولا عن لعبة برلمانية ولا يحزنون. بل الحديث هو عن امتداد لإملاء “إسرائيل” حدود وقواعد اللعبة السياسية الداخلية بما لا يتعارض وتصورها للتسوية وشروط تنفيذ هذا التصور.

ومن شروط تنفيذ هذا التصور ربط فئات كاملة من المجتمع الفلسطيني بأموال المعونات الأجنبية وبمتطلبات الأمن “الإسرائيلي”، وهدم بنية حركة التحرر الفلسطيني وتذرير السياسة الفلسطينية الى تنافس على مناصب قبل التحرير وقيام دولة مستقلة، والى تنافس على وكالة حصرية عن التسوية. وهذا ما يجري حاليا.