الحياة / حازم صاغيّة

تتجلّى مصاعب الادارة الاميركية الحالية، أكثر ما تتجلى، في مرايا «المحافظين الجدد»، وهم الآن نصفٌ في الإدارة ونصفٌ خارجها، يمارسون حيالها الدعم المشوب بالنقد وبالحض والتحريض، وينجرفون أحياناً، غاضبين، الى نقض لها تردعه عواطف الماضي وروابطه عن الذهاب الى آخر الطريق.

فحيال العراق، تتقدم الجماعة المذكورة باقتراحين متلازمين، أولهما وقد واظبت على توكيده منذ ظهور المصاعب هناك، مفاده رفع عدد الجنود، على ما شدّدت مقالات عدة ظهرت في مجلة «ويكلي ستاندارد». والثاني، ان عدد الجنود على الأرض قد يكون اقل أهمية من كيفية توزيع الجنود هؤلاء. و في المجلة نفسها كانت المقالة المعيارية، إن صح الوصف، تلك التي كتبها ماكوبين تي أوينز، المدرّس في كلية السلاح البحري، معتبراً ان المثال هو الانتصار في الفلّوجة. فـ «كل الحروب تتعلق باللوجستيات. ما من قوة، تقليدية او عِصابية، يمكن ان تمضي في القتال ما لم تتوافر القدرة على إعادة إمدادها. واقتحام الفلّوجة كان أمراً جوهرياً بإطلاق في ما خص تدمير البنية التحتية اللوجستية للمتمردين». وجاء عنوان المقالة (6/12/2004) شديد التعبير عن هذا المنحى: «فلّوجتان، ثلاث، عدة فلوجات».

لكن ما فات التحليل ان إسقاط الفلوجة ما لبث ان تلاه ظهور المتمردين في الموصل. وقد تكرر السيناريو نفسه بعد عام، اذ فيما كانت القوات الأميركية والعراقية تدكّ هيت، كان المتمردون يظهرون في الرمادي. وأبعد من هذا، على ما كتب بول روجرز، اتضاح الحقيقة القائلة إن قلب الحركة المسلحة ليس الرمادي ولا الفلّوجة، بل بغداد نفسها. ففي العاصمة يحصل يومياً ما بين 20 و25 هجوماً، والعدد في تصاعد. وهذا على رغم الزيادة الضخمة التي طرأت على تعداد الفرق العسكرية العراقية العاملة في المدينة.

وحين يصل نقد الأداء العسكري في العراق الى عضو الكونغرس عن بنسلفانيا، جاك مورثا، الذي خدم في فيتنام وعُرف بأنه من الصقور في مسائل الحرب والدفاع، ليطالب مؤخراً بجدول زمني للانسحاب، لا يبقى لروبرت كيغان ووليم كريستول إلا ان يخطّا مقالة «عاطفية» بعنوان «ترك العراق» (18/11/2005) تؤكد على النتائج الكارثية للانسحاب وما يستجرّه من دومينو يطيح الشرق الأوسط برمته.

لقد أعلن الرئيس بوش نفسه، في 13/12 ان 30 الف عراقي قُتلوا في الحرب والرقم، للأسف، في تزايد يومي. اما الرقم الاجمالي لقتلى الجيش الاميركي وجرحاه منذ آذار (مارس) 2003، فـ 2150 قتيلاً وما ينوف عن 16 الف جريح. يضاف الى هؤلاء ان أكثر من 25 الف جندي وعامل في الجيش نُقلوا بين أواخر 2001 وأواخر هذا العام، من أفغانستان والعراق للمعالجة في الولايات المتحدة. وأن لا يعالَج هؤلاء في البلدين المذكورين، ولا حتى في مستشفى لاندستوهل العسكري في المانيا، فهذا يشير الى حراجة أوضاعهم الفيزيائية و/أو النفسية. وفي انتظار ان تتبدّى النتائج السياسية للانتخابات الأخيرة، لا سيما مفاعيل مشاركة السنة، على مجريات العنف، ثمة إجماع متعاظم يشمل المراقبين على ان مرتكبي ذاك العنف، مقاومين كانوا أم ارهابيين، يطوّرون أساليبهم وقدراتهم على إيقاع الأذى والموت بالعراقيين وبالأميركان.

وهذا، كما غدا معروفاً، بات يرعب الجمهوريين، خصوصاً منهم المرشحين لانتخابات منتصف الولاية في 2006. وبدورها، انخفضت نسبة الموافقة على أداء الرئيس الى ما دون الـ40 في المئة، علماً ان الذين محضوه ثقتهم بعيد 11 ايلول (سبتمبر) 2001 بلغوا 90 في المئة. وقد شرع جمهوريو الكونغرس يعبّرون عن تمايزات يصعب كتمانها. فهناك، الى العراق، تذمرات صريحة حيال سياسة الادارة من التعذيب، كان جون ماكين أعلى أصواتها، منتزعاً من بوش تنازلاً صريحاً. وهناك فضائح الفساد التي وصل بعضها الى الكونغرس نفسه، ترصّعها اسماء جاك ابراموف وغروفر نوركويست وتوم ديلاي ولويس ليبي، وصولاًَ الى كارل روف.

لكن لماذا يتلكّأ الحزب الديموقراطي في استثمار هذه الأزمة الضاربة في الحزب الحاكم، والتي رفعت الانسحاب من العراق الى مصاف الاهتمام الحاكم، مطالبةً به أو إلماحاً اليه أو تصريحات متضاربة في شأنه؟، ولماذا هذا التلكؤ فيما تترافق الأزمة العراقية مع أوضاع اقتصادية بالغة السوء ترتّبت على سياسات بوش المالية، وفي صدارتها الاعفاءات الضريبية؟

يشير غودفري هودغسون الى «صعوبتين مدهشتين» تعيقان الديموقراطيين الاميركان، أولاهما نقص شجاعتهم وارتباكهم حيال حرب العراق، والثانية انهم لا يملكون الوعود المتفائلة يقدّمونها لشعب يحب التفاؤل. بيد ان كولن غرير يذهب خطوة أبعد فيلاحظ ان الحزب المعارض في سيره المتدرّج يميناً، غدا يحاكي الجمهوريين ويقلّدهم مهلهلاً الروابط التي تشده الى قواعده التقليدية في اليسار. وهو يلاحظ ان الجماعات الهامشية والأفقر باتت تخوض صراعاتها من خارج الحزب الديموقراطي وتحرز، بصفتها هذه، انتصارات جدية في الانتخابات المحلية. وهؤلاء، اي اللاتين والأفارقة الأميركان والمؤمنون التقدميون واعضاء النقابات والشبيبة والنساء الوحيدات، انما يشكلون اكثرية صلبة متذمّرة يقع معظمها خارج السياسة الحزبية. وهذا مع العلم بأن أكثر من 90 في المئة من السود الذين اقترعوا في انتخابات 2004 الرئاسية أعطوا أصواتهم للديموقراطي جون كيري، وكلك فعلت الشبيبة و80 في المئة من اليهود و70 في المئة من المنتسبين النقابيين والغالبية الكاسحة من المهاجرين الحديثي التجنيس.

صحيح ان هذه الطريقة اليسارية في حساب القوى غالباً ما تقع في التعميم، فتتعاطى مع الكتل السكانية بافتراضها موحدة وراء مصالحها العقلانية، كما تتغاضى عن التناقضات بين مجموعة وأخرى ضمن ما يُفترض انه حلف طبقي-مصلحي واحد. بيد ان الشيء الكثير يبقى من هذا النقد، وأوله ان التراجع أمام منظومة الوعي البوشي ليس له ما يبرره، لا مبدئياً بطبيعة الحال، ولا سياسياً وانتخابياً. ذاك ان انتصارات بوش الانتخابية انما أُحرزت على ارض أخلاها الحزب الديموقراطي وتسبّب بها افتقاره، منذ سنوات، الى المبادرات الكبرى. هكذا رأينا، مثلاً، هيلاري كلينتون، وهي من أبرز الوجوه الوطنية للديموقراطيين، تطالب بـ «إدخال الاخلاق الى السجال الدائر حول الإجهاض»، في تنازل واضح لليمين الذي يضع سجالاً كهذا - وهو أخلاقي بتعريفه - في مواجهة الأخلاق.

والراهن ان القضايا القِيَمية الكبرى التي انشقت حولها الولايات المتحدة في السنوات الاخيرة دلت كلها على غلبة الموقف التقدمي منها وعلى طابعه الأكثري. ففي انتخابات 2004 الرئاسية أعطت كافة المدن التي يزيد تعداد واحدتها على النصف مليون أغلبيتها لجون كيري. وقد سبق ذلك، في 1998، رفض الرأي العام عزل بيل كلينتون مثلما رفض، بعد سبع سنوات، الاستغلال الرجعي لقضية تيري شيافو. وقبل شهرين فقط أسقط الناخبون المبادرات التشريعية الست التي تقدم بها اليمين للتعامل مع حق الاجهاض وأموال النقابات ونشاط اللوبيّات السياسية. وبدوره، عُدّ الموقف هذا فشلاً ذريعاً للنجم والحاكم الجمهوري أرنولد شوارزينغر الذي ارتبط اسمه شخصياً بأربع من المبادرات تلك، بقدر ما عُدّ انتصاراً للجماعات المهمّشة وشبه المهمّشة التي خاصت، على مدى سنوات، حملات منظّمة لهذا الغرض. وهي نفسها الجماعات التي مهّدت للديموقراطي والقائد النقابي السابق انتونيو فيلارايغوزا طريق حاكمية لوس انجليس في أيار (مايو) الماضي.

وإذا صح ان الأصوليين الانجيليين هم الذراع القاعدية والتنظيمية الضاربة للجمهوريين، ففي وسع الخبرات التي باتت تمتلكها الأقليات، العرقية منها والجندرية والنقابية، توفير مثل تلك الذراع للديموقراطيين. وغني عن القول ان نشاطاً كهذا هو تقليدياً من مهارات اليسار، أتمثل الأمر في الخلايا الشيوعية للعشرينات والثلاثينات التي ناهضت المفاعيل السياسية والاجتماعية لـ»الكساد الكبير»، أم في الجهد التنظيمي الأعرض الذي بذله الليبراليون واليساريون في الستينات إبان معارك الحقوق المدنية وحرب فيتنام. لكنْ إذا كانت الفضيحة التي تكّشف عنها إعصار كاترينا، لجهة الاعداد والمبادرة والانفاق والتمييز، قد رفعت صوت النقد الديموقراطي قليلاً، غير ان ذلك بقي أقل بكثير من حجم الفضيحة بدلالتيها الطبقية والعرقية. وهي، والحال هذه، مستمرة في إعادة بناء مدينة نيو أورلينز التي عُهد بها الى شركات خاصة بات من المستحيل معها على الفقراء من أهلها العثور على بيوت يستأجرونها.

ففيما توجّه جورج بوش، ويتوجّه، الى أقصى اليمين، أو ما يحاذيه، يصعب على الحزب الديموقراطي ان يكسب من دون ان ينزاح، ولو قليلاً، الى اليسار. وبانزياح كهذا تتحقق إنجازات أقلّها جذب الكتلة الضخمة التي لم تصوّت، في 2004، والمُتشكّلة من السود والسمر والشبيبة، الى السياسة.

لقد ذهب الجمهوريون، مع بوش، الى ما يتعدى الريغانية يميناً، وهكذا صار الذهاب الديموقراطي الى ما يتعدى الكلينتونية يساراً شرطاً للعودة الى البيت الابيض.