الحياة/عبدالوهاب بدرخان
إذا كان هناك من مبادرة عربية ما بين لبنان وسورية فإن وقتها هو الآن وليس غداً، لأن الأرض فسدت سياسياً وأمنياً، ولم يعد الأفق مفتوحاً سوى على أمرين: الأول تعطيل العمل الحكومي تمهيداً لتعطيل البرلمان، والثاني مزيد من الاغتيالات والتفجيرات.
بمعزل عن الانتقادات اللبنانية للأمين العام للجامعة العربية، لا بد للجامعة أو للدولتين الأساسيتين، مصر والسعودية، من أخذ زمام المبادرة ووضع المشكلة اللبنانية - السورية تحت رعاية عربية مباشرة وفاعلة، وإلا فإن الأمر سينفتح أكثر فأكثر على التدخلات الدولية التي ستصبح ضرورية ولا مفر منها.
والمسألة واضحة، فنحن إزاء دولتين احداهما قادرة على إيذاء الأخرى، بل انها مصممة على ذلك بذريعة حماية نفسها. واحداهما مصرّة على التدخل في الشؤون الداخلية للثانية، بل انها ممسكة بقوة سياسية تمارس عبرها كل أنواع العرقلة والسلبية وتغطي عبرها جرائم اغتيال لا مبرر لها، ثم انها لا تزال متغلغلة في الأجهزة العسكرية والأمنية. ومن السخف اعتبار المدخل الى الحل بكم الأفواه في لبنان وفرض الصمت على بلد ينام ويصحو منتظراً الضحية التالية، وبات معروفاً أن الهدف هو تصفية رموز «انتفاضة 14 آذار» وتصفية نتائجها السياسية التي تمثلت بغالبية نيابية منبثقة من تلك الانتفاضة. لذلك شكل اغتيال النائب والصحافي جبران تويني انذاراً واضحاً لجميع نواب هذه الغالبية. ثم ان الدخول السوري الى التشكيك بشرعية الحكومة اللبنانية بات يعني وضع اعضاء هذه الحكومة على لوائح الاغتيال.
لا شك ان ترسيم الحدود بين لبنان وسورية جزء من الحلول، علماً انه كان مستبعداً ومرفوضاً تاريخياً من جانب دمشق. ولا شك ان تبادل التمثيل الديبلوماسي اجراء بديهي وعادي بين الدول المعترفة ببعضها بعضاً، لكنه كان أيضاً مستبعداً ومرفوضاً من جانب دمشق. ومع ذلك قد تكون هذه الأزمة فرصة لبلورة مختلف الأفكار التي تساهم في بناء علاقة سوية وقوية بين البلدين. لكن يصعب تفعيل هذه الأفكار في الوقت الراهن طالما ان أحد الطرفين لا يفكر إلا في قتل الآخر، وطالما ان لديه لوائح وخططاً لا لقتل الأفراد فحسب بل لنسف الوضع اللبناني والعبث به برمته.
ثم ان المشكلة حالياً ليست مشكلة تحسين العلاقة اللبنانية - السورية وكيفية تطبيعها. المشكلة لها عنوان واحد: التحقيق. نعم، التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، وهو تحقيق مرشح لأن يتوسع ليشمل كل الاغتيالات والمحاولات التي تمت قبل وبعد، وحتى تلك التي ستأتي. وكما اغتيل الحريري بقرار استند الى أن ردود الفعل قابلة للاحتواء، ارتكبت الاغتيالات الأخرى بقرارات أخذت في الاعتبار انعدام الردع دولياً وعربياً ولبنانياً. أما التحقيق نفسه فيبدو أن دمشق استهدت الى طرق للتعامل معه تعويقاً وعرقلة واختراقاً فضلاً عن التهديد بتفجير الوضع اللبناني الداخلي، بل الوضع في المنطقة. لكن ما لا يزال يزعجها هو استمرار التحقيق وتركيزه على رموز في النظام السوري نفسه. إذاً، هذه هي المشكلة، وإذا أمكن اختصار الموقف السوري فلا بد أن يكون بكلمتين: اوقفوا التحقيق... أو: انسوا «الحقيقة»!
لا أحد سيوقف التحقيق، لكن يجدر الالتفات الى الاستخدامات التي يتعرض لها. فالولايات المتحدة أدخلته في بازارها العراقي في التعامل مع سورية. وروسيا وظفته في «بزنسها» مع دمشق. وفرنسا تدعمه وتعجز عن التعامل مع نتائجه الدموية على الأرض اللبنانية. وإيران استخدمته لتعزيز تحالفها مع سورية مستفيدة من ضعف الأخيرة. وسورية تستخدمه للانتقام من انسحابها القسري من لبنان... وهكذا، يمضي التحقيق على وتيرة المصالح المتقاطعة أو المتباعدة، وإذ أصبح مرشحاً لأن يطول، فإن المحاولات ستستمر لدفعه في المتاهات. وفي الانتظار، إذا لم تكن هناك جدية عربية ودولية، قد تتكفل الاغتيالات وعمليات التخريب ومحاولات كم الأفواه في تصفية جميع المطالبين بـ «الحقيقة».