السفير /هاني فحص

لقد خرجت سوريا من لبنان، هذه واقعة، يجب ان يفهمها السوريون تماماً، هذا من جهة. ومن جهة ثانية فسوريا باقية في لبنان، وهذه واقعة أصلية، أي ليست حادثة، لم يحدثها أحد حتى تزول بالأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها. هذا الواقعة يجب ان يفهمها اللبنانيون تماماً... ولا نفرق هنا بين لبناني ولبناني، لأن الكيان أصبح جامعا نهائيا للجميع والدولة أصبحت قناعة وهمّا للجميع، لأن الحرب أثبتت ان الدولة هي أقصى ضرورات الاجتماع اللبناني، وأن من يسقطها يسقطها على رأسه أولا... أما الكيان فقد انكشف رسوخه عندما انتقلت العروبة من مقام العقيدة الى مقام الانتماء، او أنها عادت الى مقامها الاول مبرأة من أوهام المشروعات العابرة للأوطان، مستندة الى حالة من الوعي الوحدوي الراسخ في المجتمعات الوطنية العربية، لا يجد ضرورة للدولة الأمة ليحافظ على عمقه ومعناه ودوره التضامني والتكاملي على نسبة من الاختلاف الطبيعي والضروري. هل هناك من يريد الغاء سوريا من الوعي والواقع اللبناني؟ حسنا، وبعيدا عن أوصاف أخلاقية كالحقد والعنصرية، فإنه لجنون بالمعنى التام والواقعي، لأن سوريا واقعة وطنية لبنانية، عربية، وإقليمية راسخة، وأشد رسوخا بالنسبة للبنان، من اي واقعة اقليمية اخرى. الى ذلك، فإن سوريا هي حبل السرة العربي للكائن والكيان اللبناني. والكائن اللبناني، كغيره من الكائنات الحية، هو في حالة نمو دائمة، اي بحاجة الى الماء والهواء والأفق والمدى والعمق من اجل البقاء والحياة والنهوض والاستقلال والسيادة والحرية والذاكرة والحلم بدورة إنتاج اجتماعي وثقافي واقتصادي وطني بشروطها العربية الذاتية والموضوعية.

إن وهم القطيعة عن سوريا والتفرغ لمحاسبتها على اخطاء قاتلة شاركها فيها جميع اللبنانيين بنسب مختلفة، لا يقلان خطرا على لبنان من تجاوز أخطاء السوريين واللبنانيين في حق سوريا ولبنان، في سوريا وفي لبنان، ولا يقلان خطرا عن وهم التصرف او التفكير على أساس ان الماضي القريب ما زال حاضرا، او سيبقى حاضرا.. إن من يفكرون بهذه الطريقة يدفعون سوريا لأن تعاود الوقوع في مطب لبناني جديد، يؤدي بها الى مزيد من الدمار، ويجعلها أشد اضطرارا للامتثال الى الارادات التي تملى عليها بسبب تراكم مفاعيل المكابرة ومعاندة الوقائع والأحداث على المستوى الاقليمي والعالمي... كما أنهم يريدون للبنان ان يقع في مطب سوري جديد، لا يقل خطورة عن المطب اللبناني المفترض لسوريا، على تقدير عدم عودة الوعي الى حكامها او عودتهم الى وعي واقعهم والواقع اللبناني الذي أسهموا في تدهوره وتحوله الى تحد لهم أولا، وللبنانيين ثانيا.

على هذا، تصبح إدارة العملية السياسية في لبنان، على أساس التقابل الحاد او الثنائية المتفاصلة بين السوري واللبناني، إدارة فاشلة، كما أن إدارتها على أساس التطابق، ما عُبر عنه بخفة بوحدة المسارين، فاشلة، من دون توهم إمكان النجاح على أساس تناقض المسارين، بل ان شرط النجاح هو وعي مساحة الاختلاف ومساحة التوافق بين هذين المسارين، اي رؤية العام والخاص في حالي لبنان وسوريا.

ولعل الناجع والمنطقي والمفيد للبنان وسوريا وللمستقبل المشترك، القائم على ثوابت الجوار وما ترتب عليه من وحدة في الماضي، وشراكة في الحاضر، وبصرف النظر عن الالتواءات في مجرى التاريخ، من حوادث عام 1958 الى الآن على الأقل... المنطقي ان يتم إنجاز العملية السياسية في لبنان باعتدال بين السلبية المطلقة تجاه سوريا والإيجابية المطلقة، وكأنه لم يحدث شيء.. اي من دون عداوة مستحكمة ومن دون انكار للاختلاف او تهوين للخلاف. ومنطق العداوة مضر بالطرفين، ومنطق تجاهل الاختلاف الذي تحول الى خلاف، كذلك، والاعتدال، او الوسطية هي التي تمكننا من ان نرى هذا وذاك، وتطلق يدنا وعقلنا من أجل اعادة بناء المشترك على قاعدة الذاكرة والمصلحة.

يخشى العقلاء، الذين يتمتعون بدم حار وأعصاب باردة، ان تكون حماوة السجال مناخا لغياب المشروع، وحضور الفوضى والعدمية، ليصبح الهاجس المهيمن هو استعادة الغلبة من الطرف السوري او المكاسرة من الطرف اللبناني. وعليه، فإن الحوار الحقيقي يحتاج الى مبادرة عاقلة من عقلاء معتدلين اصلا، او عائدين الى عقلهم واعتدالهم مرجّحين للتسوية على وهم الغلبة واستحالتها وما يترتب عليها من كوارث اضافية، من أجل مشروع يشكل مخرجا ومن خلال عملية سياسية تحمل علامات سوريا المستقبل، سوريا المعاصرة ضمانة لسوريا ولبنان، وتحمل علامات لبنان المستقبل، الذي تكوّن كيانا ودولة بالفصل عن سوريا، فصلا كان موجعاً، ولكنه حدث، ولم يكن يحدث بإرادة المستعمر لو لم ينتبه المستعمر الى معطيات في الواقع اللبناني تسمح بفصل لبنان وتأسيس الكيان اللبناني والسوري والأردني والفلسطيني. بلى.. قد لا يكون من شأن هذه المعطيات، لو اشتغلت وحدها ومن دون مساعدة الفرنسي، ان تنتج الكيانات، او ان تنتجها بالسرعة التي انتجتها بها، ولكن كل ذلك لم يمنع الواقع اللبناني كما الواقع السوري والأردني والفلسطيني ان يصبح واقعا، كما كانت سوريا الكبرى او بلاد الشام واقعا سياسيا مشهودا ولم يعد مشهودا سياسيا، بل اجتماعيا.. وثقافيا الى حد كبير.. ان الخصوصيات التي لم تكن ساطعة ولا خفية، ولكنها كانت موجودة بما ترتب عليها من حساسيات، أمكنت الفرنسي ان ينقل لبنان الكيان من الإمكان او من القوة الى الفعل، وصار لبنان وطنا لكل أبنائه، بوعي متفاوت منهم جميعا، كما كان استقلاله كذلك لاحقا، من دون ان يؤدي ذلك الى الغاء او تعطيل مكوناته وكلياته العربية التي تمر بسوريا لتذهب في كل الاتجاهات العربية، وتمر بالبحر المتوسط لتذهب في اتجاهات اخرى... وإن لم تمر في سوريا فسوف تبقى حبيسة الجغرافيا، وسوف تتسرب اليها الأسرلة بقوة أكثر مما تسربت سابقا ثم نكصت.. ومع الأسرلة تأتي التجزئة، (الفدرالية) التي تمزق لبنان الرسالة وتحوله الى أقل من وطن لا أكثر من وطن كما في شهادة الارشاد الرسولي. ختاما... يحلو لي ترديد قول مؤرخ فرنسي: <<التاريخ هو النسيان>>، لأن الذي لا ينسى لا يمشي، بل يتقهقر.. ومن يُرد ان يعالج الخطأ الجسيم بخطأ اكثر جسامة، لا يُرد ان يبني، بل هو يعيد انتاج الدمار.. ويصرف النظر عن النوايا... لأن التاريخ وقائع في المحصلة.