المستقبل /وليام فاف

ظهر فجأة أن القمة الأوروبية التي انعقدت الأسبوع الماضي، كانت شديدة الأهمية، بشكل غير متوقّع، فقد حسمت أولاً المسألة بين الخيارين، الأول القائل إن أوروبا ستبقى "اجتماعية" وأوروبية، والثاني القائل إن أوروبا ستتحوّل الى سوق حرة، وقوة أطلسية. وبفضل خيبة رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، ستكون أوروبا قوة أوروبية. والأمر الثاني من حيث الأهمية لتلك القمة، أنها كشفت عن قدرات وطموح المستشارة الجديدة أنجيلا ميركل، والتي استطاعت خلال نهاية أسبوع واحد أن تُعيد ألمانيا الى القيادة في أوروبا، بعد أن كادت تفقد كل شيء خلال الشهور الأخيرة من فترة حكم المستشار غرهارد شرودر.

لكن لا يمكن إنكار فشل بلير لاستغلال الأشهر الستة من رئاسة بريطانيا للاتحاد الأوروبي (نعم فشله، وحتى أنه لم يحاول!) في إعادة توجيه أوروبا الاقتصادية والسياسية، وهو الأمر الذي سيترك بريطانيا بعلاقات مختلفة مع أوروبا لزمن ليس بالقصير. أما وعده الشهير في ستراسبورغ آخر حزيران ـ والذي صفّق له الكثيرون طويلاً ـ أن يتحوّل عن "أوروبا الاجتماعية" الى أوروبا الأطلسية، بأن يحشد الأعضاء الجدد في الاتحاد باتجاه الشراكة مع الولايات المتحدة، فقد فشِل في تحقيقه فشلاً مُذلاً؛ وليس بسبب معارضة فرنسا وألمانيا، اللتين أرادتا الخيار الأول، أي أوروبا الاجتماعية.

لقد صارت أنجيلا ميركل النجم الساطع الجديد في الاتحاد الأوروبي. فقد نجحت ديبلوماسيتها في إزالة العقبات التي جمّدت القمة لساعات عدة، واستحقت فعلاً تصفيق الأوروبيين والعالم. وقد كانت ميركل محظوظة. فعلى مشارف القمة أُعلن الاستطلاع القائل إن نسبة النمو في أوروبا سترتفع عام 2006 من 1.5 الى 1.7 مع احتمال انخفاض نسبة البطالة بشكل ملحوظ؛ كما هو الحال في التنبؤات بالنسبة لفرنسا. لقد فاجأت الناخبين الألمان، وحقّقت ارتفاعاً في شعبيتها. وهي خرجت من بروكسل وقد كفلت احترام الحكومات الأوروبية الأخرى، بما في ذلك بولندا، بعد شكوك كبيرة أحاطت بألمانيا. أما الشعوب غير الأوروبية، والتي كانت تتساءل عن قدرات القوى من وراء السوق الأوروبية عندما يواجه الاتحاد صعوبات حقيقية، بعد أن شهدت إذلالاً فرنسياً وهزيمة ألمانية، وانقساماً إيطالياً؛ ومشكلات متعاظمة لدى دول البنيلوكس الثلاث، فأين تبقى القوى الداعمة للسوق والاتحاد؟! وقد قيل يومها وبحق بعد ذلك، إن الولايات المتحدة كانت أفضل أصدقاء أوروبا. وقد دعمت الولايات المتحدة جان مونيه حتى قبل نهاية الحرب. ثم أرادت وحدة أوروبا للأسباب المعروفة في الحرب الباردة. لكنها أيضاً دعمت الاتحاد الأوروبي الذي تصوّرت أنه سيكون مثل الولايات المتحدة.

ويمكن القول اليوم إن الولايات المتحدة بقيت صديق أوروبا الثابت، لكن للأسباب الغَلَط. فقد بذلت الولايات المتحدة جهوداً كبيرة في الأعوام الأخيرة لقسمة أوروبا ثم السيطرة عليها ومنعها من التحوّل الى خصم ومُنافس. وقد دفع ذلك أوروبيين كثيرين للابتعاد عن أميركا. لقد إرتكبت إدارة بوش أخطاء كثيرة: من التفرد بالرأي وإلى انتهاك حقوق الإنسان، والكذب على الكونغرس والأوروبيين معاً، وممارسة التعذيب وتبريره من جانب الرئيس ونائبه؛ كل ذلك أخاف الأوروبيين: من سيكون الضحية القادمة للولايات المتحدة؟ فقد شاهد الأوروبيون تلك الأمور وعاشوها خلال العهد النازي ثم عندما كان الاتحاد السوفياتي قوياً وعنيفاً. أما اليوم فإن الولايات المتحدة تُقلقهم كثيراً.

وتبدو هزيمة بلير الآن باعتبارها من صُنع يديه؛ لكن ذلك ليس صحيحاً. فبريطانيا ما دخلت الاتحاد غير نصف دخول. وبقي الناخبون البريطانيون مترددين في المُضيّ قُدُماً، وأياً يكن الحزب الحاكم في البلاد. وما كان بمقدور بلير أن يقدّم تنازلات أخرى في بروكسل؛ ثم إنه كان قد أعلن خضوعه للولايات المتحدة. ولذلك يبقى أمراً غامضاً، لماذا أعلن عن نوايا صعبة التحقق في شهر حزيران الماضي. صحيح أن هناك بريطانيين مُتشككون في الولايات المتحدة وأعدادهم الى تزايد؛ لكنهم يشعرون أنهم سيكون أكثر راحة مع أميركا منهم مع الأوروبيين الآخرين. وقد كان على البريطانيين أن يأخذوا بنصيحة ديغول (وكانت أيضاً نصيحة تشرتشل) في عدم دخول الاتحاد. وكان بوسعهم أن يعملوا أشياء كثيرة من خلال الكومنولث؛ لكنهم جمدوه بعد الحرب الثانية، ولأسباب مجهولة.

ظلّت ميركل أمينة لأوروبا الاجتماعية والأوروبية، وهي تريد في ما يقال إعادة إطلاق النقاش حول دستور الاتحاد، بعد إعطائه أفقاً اجتماعياً، متجاهلة بعض اقتراحات السوق الحرة غير المعقولة، والتي تسببت بمتاعب ليس في فرنسا وألمانيا فقط؛ بل وفي السويد وإيرلندا أيضاً. وهناك أمرٌ يمكن قوله للدول الجديدة الداخلة في الاتحاد، والتي يحمل بعض منها أفكار السوق الحرة المتطرفة. هم مهتمون بالدرجة الأولى بالتصدير الى الأوروبيين الآخرين. لكن يكون عليهم أن لا يبالغوا في إرسال العمال الى الدول الأوروبية الأكثر غنى ومرتبات وامتيازات. ولقد كانت للسوق الأوروبية منذ البداية شعبيتها بسبب ميزاتها الاجتماعية والاقتصادية لدى المثقفين والمعارضين السياسيين وحتى غير الديموقراطيين. ويبدو أن بنت الكاهن الآتية من شرق ألمانيا تفهم ذلك جيداً. وعندما تتسلم ميركل في العام 2007 رئاسة الاتحاد يكون كلٌ من بلير وبرلوسكوني وشيراك قد ذهبوا، أما هي فتكون قد بدأت عامها الثاني في منصب المستشارية