الحياة /ياسين الحاج صالح

كان الدافع الإيديولوجي، بل الثقافي و»الحضاري»، في سياسية الأميركيين حيال العالم العربي كبيرا بعد 11 أيلول (سبتمبر). لقد تمحورت السياسة الأميركية حول عداء رضّي المنشأ للعالم الإسلامي، والعربي بخاصة، اشتق بعض تسويغه الفكري من مذاهب ونظريات سابقة، مثل نظرية «صراع الحضارات»؛ وحول الدعوة إلى الديموقراطية، لكن منظورا إليها كتعبير عن الهوية الأميركية المتفوقة. تاريخ السنوات الأربع المنقضية هو تاريخ انفكاك هذا الاقتران وتراجع الطابع الإرادوي الذي يسم عادة كل الدعاوى الشمولية. وهو أيضا تاريخ تراجع ما قد نسميه النزعة الثورية الطفولية المحافظة الجديدة لمصلحة مقاربة أكثر واقعية وأقل أيديولوجية.

اليوم، الأذن الأميركية جاهزة لسماع النصيحة الإسرائيلية التي كانت حذرة على الدوام حيال دعوى دمقرطة العالم العربي. الإسرائيليون أوفياء لمذهب السياسة الواقعية الذي يمنح أولوية للاستقرار على التغيير، أو لتغيير مُتحكَم فيه على تغيير منفلت من السيطرة، ما داموا يحظون بموقع متفوق ولا منافس له في ما تصح تسميته النظام العربي الإسرائيلي (يغدون «ثوريين» وتدميريين، هم والأميركيين وأنظمة عربية، إذا تعرض تفوقهم لتحد أو منافسة جدية). وحساسيتهم حيال التغيير في المنطقة أقوى من الحساسية الأميركية، كونهم أقرب إلى وقائعها، وأكثر تأثرا بمتغيراتها، ولديهم «حقل تجاربهم» الفلسطيني تُستخلص منه نتائج اكثر موثوقية و... قابلية للتصدير من حماسات إيديولوجية عارضة.

ويسهّل تراجع الأميركيين عن فورتهم الديموقراطية كونها مُحفّزة بدافع أمني أصلا. فقد كانت الديموقراطية تقنية تجفيف لـ»منابع الإرهاب» المفترضة في «الشرق الأوسط». ومع تراكم المصاعب الأمنية، بل مع تسبب مشروع الهندسة الاجتماعية والجيوسياسية الأميركية، المسمى الشرق الأوسط الكبير، في استنباع مشكلات أمنية متفاقمة للأميركيين، أخذ يغلب الميل إلى التخلي عن التقنية تلك. وهكذا يبدو أن الطرفين، الأميركي والإسرائيلي، يلتقيان مجددا حول محورة سياستيهما الشرق أوسطية حول الأمن والاستقرار.

ولعل مرحلة ما بعد احتلال العراق على وجه الخصوص هي المرة الأولى التي تنتقل فيها إسرائيل من عائق موضوعي أمام الديموقراطية في البلاد العربية إلى معترض علني على الخطط الأميركية بشأنها، أو على المساس بالستاتيكو العربي الراهن. قبل أسبوعين حذر مسؤولون أمنيون إسرائيليون من الانجرار وراء مسعى أميركي مفترض لإطاحة نظام الرئيس بشار الأسد.

فهم يخشون أن يعقب الحكم الحالي في دمشق حالة من الفوضى الشبيهة بالوضع العراقي، لا بد أن يصيبهم رذاذها أو ما هو أكثر من الرذاذ؛ أو وثوب إسلاميين متشددين حيال إسرائيل إلى الحكم، قد يصعّدون الوضع على الحدود (يقصدون في الجولان على الأرجح)؛ أو استيلاء جنرال قوي على الحكم، ما قد يفتح باب مطالبات جديدة. يفضل الإسرائيليون أن لا يرتفع الضغط عن النظام الحالي، لكن ألا يرتفع ضده إلى درجة أن يودي به. «علينا أن نحرص على أن يكون الأسد تحت ضغط مستمر، ولكنْ محظور علينا بأي حال تأييد أولئك الذين يطالبون في واشنطن بإزاحة الأسد»، حسبما نسبت «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية إلى مشاركين في مداولات إسرائيلية حول الوضع في سورية، ونقلتها صحف عربية متّزنة. ولعلهم يفضلون أيضا نظاما يجمع بين إصدار خطاب عداء ومواجهة لإسرائيل، بما يتيح لها التشكيك بإعلاناته السلمية، وبين ضعف يمنعه من مواجهة جدية أو تشكيل تهديد ذي صدقية لها، على نظام ذي خطاب سلامي متماسك، وإن يكن أضعف.

في ما وراء المخاوف الأمنية القصيرة والمتوسطة الأمد، ليس ثمة مؤشرات تناقض تفضيل إسرائيل بقاء الأوضاع الراهنة على تغيير مجهول النتائج، سواء كان باتجاه الفوضى، أو نحو الإتيان بنظم أكثر تمثيلية أو حتى أكثر ديموقراطية. ينبغي ألا يحول دون فهم ذلك إيديولوجيا الصراع بين أطراف ما ندعوه النظام العربي الإسرائيلي.

تحتل إسرائيل في النظام هذا، الذي ألفت تحدياته ومشكلاته وحلوله، موقعا متفوقا سياسيا وعسكريا واستراتيجيا (يناظر الموقع الامبراطوري الذي تحتله الولايات المتحدة في النظام العالمي، ما يجعل من إسرائيل مركزا إمبراطوريا فرعيا في «الشرق الأوسط»)، وهو موقع محميّ بتفاهمات ضمنية أو علنية، بل حتى بعداوة منضبطة، وتكفل الولايات المتحدة استقرار النظام أو انضباط تحولاته، فيما قد يفتح تغيير نظام الاستقرار الراهن الأبواب لمشكلات جديدة ومصاعب جديدة، تقتضي جهودا وموارد كبيرة قبل التحكم بها مجددا، إن أمكن التحكم أصلا.

يبقى أن من المستبعد أن يطوي الأميركيون نهائيا صفحة مشروع تغيير نظام المنطقة الكلي (وهذا شيء مختلف عن «تغيير الأنظمة»). الأرجح أن دروس السنوات المنقضية ستدفع نحو تصور للتغيير أقل درامية وأكثر واقعية وأبطأ وتيرة، الأمر الذي ربما اتسع لإعادة تأهيل النظم الحالية، جاعلا من تغيير النظام هنا أو هناك استثناء أو حالة قصوى. بعبارة أخرى، قد تجري مراجعة نهج «تغيير الأنظمة وإعادة رسم الخرائط» لكن دون مساس بالتحول الامبراطوري الذي يمكّن الولايات المتحدة من التحكم بالتفاعلات العالمية أو يمنحها موقع السيادة العالمية، وهو التحول الذي أسس ذلك النهج.

من هذا الموقع الامبراطوري لا استقرار دائما ولا ثورية دائمة في السياسة الأميركية، ولكنْ ثمة تحول سيادي، ينزع نحو الدوام، ولا مجال لمراجعته أو التراجع عنه. وهو تحول سابق على 11 أيلول، ويدين اكثر للفوز الأميركي بالحرب الباردة. بعبارة أخرى، لا رجوع إلى ما قبل 11 أيلول، لكن سياسة ما بعد 11 أيلول تخضع لإعادة ضبط وتعديل على ضوء تجارب أكثر من خمسين شهرا ماضية.

وينسجم مع التحول هذا تغيير النظام الكلي أكثر من تغيير ثوري شامل «يحطم آلات الدول» الشرق أوسطية واحدة واحدة. وهذا أقرب إلى حكمة بريطانية مكتسبة نصحت الأميركيين بأفضلية الاعتماد على ركائز محلية لحكمهم الشرق أوسطي.

لا يخفي الانحياز الأميركي التدريجي إلى وجهة النظر الإسرائيلية الأكثر تحفظا حيال تغيير الشرق الأوسط، والتغيير في الشرق الأوسط، إمعان العرب في الغياب عن المشهد، أو بقاءهم موضوعا سلبيا لمداولات فاعلين دوليين وإقليميين أصلاء. وحتى تخبّط الأميركيين الراهن في العراق، وحتى عودتهم عن مذهب «تصدير الثورة الاجتماعية» (مايكل ليدن، أحد نجوم المحافظين الجدد) أو الديموقراطية، لا يمنح جدارة بالحياة أو البقاء نظماً سياسية واجتماعية عربية يكاد يعافها الموت ذاته.