الحياة /محمود المبارك

بصدور قرار مجلس الأمن الأخير الرقم 1644 الخاص بتمديد مهمة لجنة تقصي الحقائق في مقتل رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري، يكون المجلس قد أصدر من القرارات في هذا العام فقط ثلاثة وستين قراراً - وهو رقم أكبر من عمر المنظمة الدولية بقليل- التي تكون بهذا قد دخلت سن الشيخوخة الموصوفة بالحكمة.

وعلى رغم إن هذا يعد إحرازاً عظيماً للمجلس الذي كان قد عانى جموداً قاتلاً لنشاطه خلال فترة تنافس القطبين العالميين، إلا إنها يثير تساؤلات جادة حول صدقية المجلس في التعامل مع القضايا الدولية بأمانة وعدل.

فمجلس الأمن الذي شهد قرابة ثلاثمئة اعتراض (فيتو) على قراراته بسبب تسلط الدول دائمة العضوية ولم يستطع أن يصدر إلا ستمئة قرار في الفترة ما بين 1945-1989، وجد نفسه قادراً على إصدار ما يقرب من ألف قرار في الفترة من 1990 -2005، من دون أن يكون لاعتراضات الدول الأعضاء ما يستحق الذكر.

لكن المثير للجدل هو أن معظم اهتمامات المجلس وقراراته في فترة ما بعد الحرب الباردة، تتركز على دول معينة ومواضيع محددة تتوافق مع هوى الدول المسيطرة على جدول أعمال المجلس وعلى رأسها الولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال نجد أن دولاً كالعراق والسودان وسورية وأفغانستان احتلت نصيباً وافراً من اهتمامات المجلس من حيث عدد جلساته وقراراته.

ولعل السؤال المطروح اليوم من أبناء وشعوب هذه الدول هو: هل من العدل والإنصاف أن يكون تطبيق ميثاق الأمم المتحدة والقوانين والأعراف الدولية حكراً على الدول الضعيفة التي لا تجد مناصراً لها في مجلس الأمن؟

تتضح حقيقة هذا السؤال لكل متابع للشؤون الدولية القانونية في مجلس الأمن الدولي. فلو نظرنا في واقع مجلس الأمن لتبين -على سبيل المثال- أيهما أولى أن يكون على رأس جدول أعماله من حيث تهديد الأمن والسلم الدوليين: دولة غزت دولة مجاورة -رغم ما فيه من عدوان مخالف للمواثيق والقوانين الدولية - أو دولة قامت بغزو ثلاث دول؟

إذ ربما تفاجئنا الإجابة لنجد أن المجلس قام بصب اهتماماته على الحالة الأولى فعقد لها أكثر من مئتي جلسة أصدر خلالها أكثر من أربعين قراراً ضد الدولة التي غزت جارتها، بينما وقف المجلس مكتف الأيدي تجاه الدولة الأخرى التي قامت بغزو ثلاث دول؟

ولكن هذا العجب قد يزول إذا علمنا أن الحال الأولى تخص العراق في غزوها للكويت عام 1990، وأن الأخيرة هي الولايات المتحدة في غزوها لغرينادا عام 1983 وبنما عام 1989 والعراق عام 2003.

بيد أن هذه الحال ليست جديدة على المتابع القانوني. فاستغلال الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن لحق الاعتراض (الفيتو) لمصالحها القومية ومنعه من اتخاذ إجراءات ضدها قديم قدم المنظمة الدولية ذاتها، إلا إنه يبدو أن أمور المجلس اليوم ازدادت سوءاً عما كانت عليه في الماضي.

ففي الماضي كان مجلس الأمن يشهد جرأةً في الاعتراض على الدول دائمة العضوية حين تخالف إحداها القوانين الدولية، وإن تعذر إصدار قرار شجب من مجلس الأمن بسبب استخدام حق الفيتو. أما اليوم فتسليمٌ مطلقٌ من غير اعتراض.

على سبيل المثال، حين غزا الاتحاد السوفياتي السابق أفغانستان عام 1979 تقدمت أربع وثلاثون دولة بشكوى لرئيس مجلس الأمن وعقدت جلسة خاصة لمناقشة الموضوع. أما اليوم فحين غزت الولايات المتحدة العراق, لم تجرؤ دولة واحدة حتى على مجرد طلب عقد جلسة لمجلس الأمن لمناقشته، فضلاً عن شجبه واستنكاره.

وبهذا أصبحت سيطرة الولايات المتحدة على مجلس الأمن تكاد تدخله تحت الملكية الخاصة. فمجلس الأمن الذي زج بنفسه مع التيار الأميركي (لئلا يكون ضده)، يسمح لنفسه بأن يستنكر كل عمل «إرهابي» (بحسب المعايير الأميركية)، من دون أن يسأل نفسه عن إرهاب دول أعضاء في مجلسه الموقر أو حلفائهم المقربين! ربما لأنه يرى أن هذه التصرفات لا تستحق أن يشقى المجلس من أجلها، إذ هي في نظره من اللمم الذي سيغفره المجلس لأصحابه وإن أصروا عليه.

لكن وللحق، فإن المجلس وإن لم يستطع - بسبب محدودية قدراته - أن يحقق كل ما يريد من أمن وأمان لشعوب البشرية جمعاء، إلا إنه يحاول مستميتاً أن «يسدد ويقارب». فيعمل كل ما في وسعه لحفظ ما بقي من السلم والأمن الدوليين بقدر ما يتاح له. فالمجلس إذاً وإن فرط في بعض التزاماته الدولية لأسباب لا تخفى، فإنه - ولا شك - لن يفرط في التزاماته كلها.

فعلى سبيل المثال نجد أن المجلس وإن تغاضى عما حصل في سجن أبي غريب من انتهاكات دولية أو ما تبعها من انتهاكات محلية من جانب الحكومة العراقية الحالية ضد مواطنيها في السجون العراقية، ولم يصدر حولها حتى مجرد بيان شجب أو استنكار، إلا إنه قد يهتز ويرتج لتصريحات يطلقها الرئيس الإيراني ضد مسألة تاريخية - وإن كانت قد قبلت الجدل في أوروبا والولايات المتحدة - ويصدر حولها بياناً رئاسياً هو الرقم 8576 يشجب فيه وبشدة ما تلفظ به الرئيس الإيراني من كفر بواح حول تشكيكه في المحرقة اليهودية أو اقتراح طرد إسرائيل من الشرق الأوسط.

ومجلس الأمن وإن عفا عن انتهاكات تدنيس القرآن الكريم الذي يمس مشاعر أكثر من ثلث البشرية، أو عفا عن انتهاكات معتقلات غوانتانامو ومعتقلات الولايات المتحدة في أوروبا المخالفة لأبسط مبادئ حقوق الإنسان، إلا إنه حريص على أداء واجبه في متابعة مجرمي الحرب في دارفور ولن يسمح لهؤلاء بأن يفلتوا من يد «عدالته».

ومجلس الأمن وإن غض النظر عن استخدام أسلحة محرمة دولياً في العراق التي ذهب ضحيتها عشرات آلاف الأبرياء، إلا إنه يسارع في الاستجابة حين يُطلب منه اتخاذ قرار حازم وعاجل بشأن تفجيرات إرهابية في مدريد أو لندن.

والمجلس أيضاً وإن فرط في عدم شجب عمليات سلب ونهب المتاحف العراقية من جانب القوات الأميركية بعد دخولها العراق رغم كونه أمراً يتعارض مع اتفاقية لاهاي 1954 القاضية بالحفاظ على الممتلكات الثقافية والآثار، إلا إنه لم يتوان في أن يشجب بشدة قرار هدم تماثيل بوذا من جانب حكومة طالبان, لكونه يتعارض مع المعاهدة الدولية الآنفة الذكر.

والمجلس أيضاً وإن تجاوز مسألة كذب «بعض الدول» التي اتهمت العراق بحيازة أسلحة الدمار الشامل التي أثيرت في أروقة المجلس ذاته والتي تبين كذبها لاحقاً، إلا إنه لن ينس لحكومة صدام حسين «جرائمها» السابقة ضد الأكراد في الشمال والشيعة في الجنوب.

وأما الأمين العام للأمم المتحدة -الذي ربما شغلته تهديدات الولايات المتحدة بعدم التجديد له أو بإثارة فضيحة النفط مقابل الغذاء ضده عن القيام ببعض مهماته - فهو لا يتردد في استخدام أشد العبارات في شجب اغتيال النائب اللبناني جبران تويني – وإن كنا لا نختلف معه في ذلك - ويصفه محقاً هذا الاغتيال بكونه عملاً وحشياً بربرياً. إلا إن معالي «الأمين» قد يلتزم الصمت حين يرى الطائرات الإسرائيلية تقصف قادة المقاومة في غزة الواحد تلو الآخر من دون أن يحرك ساكناً، معتبراً ذلك شأناً داخلياً.

وبمناسبة الحديث عن الشؤون الداخلية فإن المجلس وأمين منظمته قد لا يرون بأساً في تهديدات الكونغرس الأميركي والاتحاد الأوربي بقطع المعونات المادية والإنسانية عن السلطة الفلسطينية, إذا ما أقرت الأخيرة نتائج الانتخابات البلدية «الديموقراطية» التي فازت بها حماس، لكونها منظمةً إرهابيةً تهدد الأمن والسلام الإقليمي والعالمي, رغم كون هذا التدخل يتعارض مع المادة 2(7) من ميثاق الأمم المتحدة.

إلا إن مجلس الأمن الموقر لم يعد يرى في ليبيا – التي كانت قد أتعبت المجلس لفترة غير قصيرة من قبل وشقيت بغضبةٍ منه وعوقبت بحظر اقتصادي شامل - أنها دولة ترعى الإرهاب كما كانت من قبل. فهي اليوم حظيت برضا المجلس بعدما باركتها اليد الأميركية التي صافحتها أخيراً.

خلاصة الأمر إذاً أن مجلس الأمن لن يضر دولةً وإن عمت وطمت مخالفاتها القانونية الدولية م ادامت العين الأميركية راضية عنها. ولن يرضى مجلس الأمن عن دولةٍ ما وإن احترمت القوانين الدولية ما دامت العين الأميركية غاضبة عليها.

وكذلك الأمر مع حادثة مقتل الرئيس الحريري، فتقرير ميليس وعمل لجنة تقصي الحقائق في مقتل الرئيس الحريري ليس إلا نتيجةَ غضبةٍ أميركية وافقت هوىً أوروبياً، وإن زعم مجلس الأمن وأعضاؤه وأمينُ منظمته غيرَ ذلك. وقرار الأمين العام للأمم المتحدة الخاص بتعيين لجنة للتحقيق في مقتل الحريري واهتمامه الشخصي في متابعة سير عمل اللجنة ما كان ليكون لو كان المتهم غير المتهم. وهو أمر غاية في الخطورة إذا لم يتدارك العالم حقيقته – التي لم تعد تخفى - قبل فوات الأوان.

وإذا كان العالم العربي والإسلامي هو المحرك الحقيقي لكثيرٍ من أحداث العالم اليوم ليس عبر حكوماته فحسب بل عبر أفراده وجماعاته أيضاً، فإنه حري بمن يتحمل مسؤولية الأمن والسلم الدوليين ألا يغفل تساؤلاته.

وإن كان حال العالم العربي والإسلامي اليوم يقول: إنه ربما فات واضعي ميثاق الأمم المتحدة أن أمن العالم الذي من أجله وجدت المنظمة الدولية قبل أكثر من ستين عاماً لا يتحقق إلا بالعدل. ولعله تبين اليوم لمنظمة الأمم المتحدة وهي في سن حكمة الشيوخ بما يغني عن الجدل, أنه متى فقد العدل انعدم الأمن. ولكن إذا كانت الأسماء تدل على مسمياتها، فلا غرو إذاً ان كان اسم هذا المجلس منذ البداية مجلس الأمن وليس مجلس العدل!