إيلاف/ د. عبدالباسط سيدا

سؤال أساسي يُطرح في الداخل السوري وخارجه: ماذا سيحدث في حال انهيار السلطة الحالية. ومشروعية هذا السؤال تتأتى من واقع الشك الذي يحوم حول مدى جدية وتماسك المعارضة السورية بتوجهاتها المختلفة، وقدرتها على طرح البديل الناضج الذي من شأنه اقناع الأهل والناس بجدارته على تبوء موقع الريادة، وانقاذ الشعب والوطن من براثن مأساة طويلة مضنية، سطّحت العقول، وأفسدت الضمائر، وأرهقت الكواهل....

وما يعزز الشكوك بقدرات المعارضة السورية، ومدى استعدادها لتحمل أعباء المهمة الوطنية الكبرى في مرحلة تُعد الأخطر والأكثر تعقيداً من أية مرحلة أخرى شهدتها سورية في تاريخها الحديث، يتمثل في عوامل عدة تخص بصورة رئيسة التفاعل الشعبي، والاتساق الفكري، والفعل السياسي....

وما نعنيه بالتفاعل الشعبي، هو حاجة المعارضة السورية العلمانية والقومية منها على وجه التحديد إلى التواصل الشعبي مع أوسع القطاعات المجتمعية؛ خاصة الشبابية والنسائية منها، هذا على الرغم من استعداد المجتمع السوري، ورغبته في الاسهام الفاعل في عملية التغيير الديمقراطي. إلا أن الذي يحصل هو بقاء الفعل المعارض ضمن حدود دائرة المناقشات النخبوية التي تأخذ الكثير من الوقت والجهد؛ وتقدّم القليل القليل على مستوى تحريك الشعب، وإشراكه في عملية مفصلية نوعية تخصّه في المقام الأول.....

أما الاتساق الفكري الذي يُعد الأساس لأي فعل جاد، بصرف النظر عن الاختصاص أو المجال، فهو ما زال يعتبر المطلوب الملح في حالة المعارضة السورية، هذه المعارضة التي تتمزق تطلعاتها بين متطلبات الخروج من الأزمة باعتماد الفعل الايجابي من جهة، وايديولوحية البعث السائدة التي تعتبر أساس الأزمة ومصدر دائها المزمن من جهة ثانية... فالعقلية التي تكتفي بأنصاف الحقائق، وتتغافل عن المتبقي منها؛ أو تحاور وتناور من أجل تسويغ وتسويق ما لا يتوافق مع التغيير الديمقراطي الشمولي المنشود، ستظل عاجزة، كسيحة، بعيدة عن المصداقية التي تظل المحور المركزي في اي فعل وطني يرمي إلى لملة الطاقات بأسرها؛ بعيداً عن أي تشنج عصبوي، وعلى أرضية استيعاب الخصوصيات في نطاق الوطن السوري الذي يكون بالجميع وللجميع....

فالتعصب بكل أشكاله يتعارض إلى حد التناقض مع الهدف الديمقراطي؛ والتحرر منه يستلزم قبل كل شيء القطع مع عقلية الاقصاء والاستعلاء والتسفيه، هذه العقلية التي كانت وما زالت في موقع الصدارة ضمن توجهات السلطة وممارساتها مع الشعب الذي من المفروض انها تستمد مشروعيتها منه، في حين أن واقع الحال يبين أن هاجس السلطة كان ومازال يحوم حول كيفية تطويع هذا الشعب، وكبحه، هذا الشعب الذي كان باستمرار القربان المغتصب على مذبح نزوات مجموعة - تدرك قبل غيرها - عدم تحليها بأية مشروعية تؤهلها للتحكم برقاب العباد ومصائر البلاد.......

وأخيراً وليس آخراً، نأتي إلى الفعل السياسي الذي لا يمكن لأي تحوّل حقيقي يصبو إلى التغيير النوعي أن ينجز من دونه؛ فالبيانات والاعلانات، فضلاً عن المواقف، تظل مجرد مقدمات نظرية، سرعان ما تغدو مجرد ذكرى تكون موضوعا للخلاف والنقد ونقد النقد، ما لم تقرن بجهد فعلي يحدد الآليات، ويضع خطة التحرك المتسقبلي، سواء على الصعيد الداخلي أو الاقليمي، وحتى الدولي؛ خطة تستقطب وتستوعب كل من له مصلحة وعلى استعدد للاسهام حسب قدرته في عملية التغيير ؛ فبمثل هذا الفعل تستطيع قوى التغيير إقناع ناسها بقدرتها على إدارة دفة الأمور، وقيادة المرحلة، وذلك في سياق الممارسة العقلانية الناضجة المقدامة التي تتعامل بموجبها مع القضايا الوطنية، بعقلية مفتوحة بعيدة عن التعصب الفئوي الشللي، أو الطائفي المذهبي؛ فضلاً عن القومي المتقوقع على ذاته..... والمثال الذي يفرض ذاته هنا أكثر من غيره هو إعلان دمشق الذي ندُر أن حظي أي اعلان سوري آخر بمثل ما حصل عليه من إشادة ومتابعة من قبل مختلف الأوساط السياسية والشعبية والفكرية، سواء في الداخل السوري أو خارجه...هذا على الرغم من وجود بعض الثغرات التي برزت في الإعلان نفسه، أو تلك التي تجسدت في العملية الإعدادية التي سبقت ظهوره... فقد اخفق الموقعون عليه " على اعلان دمشق" - على الأقل حتى الآن – في تحويل اعلانهم من مادة للتوافق السياسي النظري إلى محرّك حيوي للفعل الشعبي الذي كان من شأنه الاسهام في تفعيل الاعلان، وتطويره، وجعله بالتالي انطلاقة أكيدة لبواكير البديل النهضوي الوطني؛ الأمر الذي كان من شأنه في حالة انجازه اقناع الداخل الوطني، والمحيط الاقليمي، والخارج الدولي بوجود صمّام أمان مضمون، ينأى بذاته عن الخيارات الفاسدة التي تطرحها السسلطة وهي: آ- الاستبداد. ب- الفوضى والإرهاب. ج- الغزو والاحتلال.

إن سياسة الانتظار واللهاث خلف سراب إمكانية التفاهم مع السلطة حول إصلاحات وهمية لن تحدث؛ ولن تكون قادرة في حال حدوثها على معالجة الأزمات البنيوية العميقة التي تسببت بها مجموعة محدودة من الأشخاص المؤلهين عنوة الذين اختزلوا المجتمع والدولة في ذواتهم، وباتت القرارت الحاسمة تتخذ في مجالس مملكاتهم السرية التي تستمد نسغها من عملية انفصالها عن المجتمع وعدائها له..

كما أن نزعة التردد التي نجدها هنا وهناك لدى شخصيات المعارضة ورموزها، سواء من المستقلين أو الحزبيين، تصب الماء في طاحونة السلطة التي تسعى بكل السبل من أجل تحييدها، وإخراجها من ميدان المواجهة معها. تارة بالترغيب، واخرى بالتهديد، وثالثة بدغدغة العواطف والمشاعر الوطنية التي لا تتقاطع أصلاً مع توجهات القابضين على زمام الأمور فيها - السلطة السورية-......

إن ما تشهده المنطقة من متغيّرات وتفاعلات نوعية متسارعة، تؤكد أن رياح التغيير ستطال سورية، مهما تفنن اللامرئيون الذين يتحكمون بالرقاب والمصائر والارزاق في عملية خلط الأوراق، وكتم الأفواه الحرة النزيهة الجريئة، كما حصل لكل من جبران تويني وسمير قصير وجورج حاوي، وقبلهم الكثير الكثير، وربما بعدهم.....

إن السلطة القائمة في سورية تتقوى بحلفائها الاقليميين، وتلهث وراء الخارج؛ تتزلّف إلى الجميع في سبيل عقد صفقة تكون على حساب الشعب السوري بكل إنتماءاته. انها تريد الحصول على مقوّمات استمرار جديد بأي ثمن؛ وهي مستعدة لعقد اتفاق آخر مع القوى الدولية المهيمنة بشروط جديدة على حساب الوكن وأهله، شروط تفرضها الموازين والمعادلات المستجدة. وهناك العديد من المؤشرات التي توحي بامكانية حصولها - السلطة – على ما تريد، إذا ما ظلت المعارضة السورية بأطيافها المختلفة على وضعيتها الراهنة؛ وضعية الانفعال والانتظار... هذا في حين أن المطلوب هو التحرك الجاد المستمر نحو الداخل السوري، والتواصل مع قوى التغيير الاقليمية، سواء في العراق أو لبنان. والتحاور مع القوى الدولية على قاعدة برنامج عام يصون السيادة الوطنية، ويضمن الكرامة للشعب، ويحترم الخصوصيات في إطار الحاضنة الوطنية السورية التي نتباهى بها جميعاً ونعتز.........