السفير/ عمر كوش

قد لا نختلف في أن سوريا تمرّ في أيامنا هذه بإحدى أصعب وأخطر المراحل في تاريخها الحديث، وأنها تواجه تحديات غير مسبوقة، يتوقف على تداعياتها ومساراتها مستقبل سوريا بأدق تفاصيله. لكننا نختلف كثيراً حول الكيفية التي تعالج بها القيادة السياسية الضغوطات والأحداث التي تواجه البلد، حيث التخبط والارتباك باتا عنوانين للعجز في القدرة على التعامل مع المتغيرات الدولية والإقليمية والداخلية. فالمواجهة مع المجتمع الدولي لا يمكنها أن تتحول إلى <<مقاومة>> مهما كان الثمن، بوصفها ستقود إلى وضع سوريا وناسها في دوامة من العزلة والأخطار المدمرة، ولن تفيد في هذا المجال أعمال التعبئة الإعلامية واستنهاض الحمية الوطنية، واعتبار المواجهة جزءاً من المصلحة الوطنية، مع أن غالبية السوريين تخشى من مخاطر الانزلاق في الشعاراتية المهترئة التي لم تجلب إلى هذا البلد سوى الكثير من الكلام والقليل من الأفعال التي تصب في مصلحته.

والغريب في الأمر أن مفاهيم <<الوطن>>، و<<الوطنية>>، والمصلحة الوطنية>>، و<<الأمن الوطني>>، وسواها، أخذت تتصدر خطاب الشحذ والاستنهاض، وتحتل مساحات في هتفات الشارع وفي اللافات المرفوعة فيه. في حين أن هذه المفاهيم كانت تُثقل طوال الوقت ما كان يطرحه ويكتبه النشطاء السياسيون السوريون المعارضون والمثقفون النقديون، ولم تلقَ أية إشارة لدى النخب السياسية الحاكمة، لأنها كانت تخصر مركبات وحمولات الوطن والمصلحة الوطنية إلى مصالحها ومصالح من لفّ في فلكها فقط.

ويزداد الأمر تعقيداً في تعيينات المصلحة الوطنية في الخطاب الرسمي السوري، إذ لم يعرف هذا المفهوم أرضنة وفق روح الشعب ومصالحه، بل ظل يحلق في فضاء السلطة الحاكمة. ولم تضع الأدبيات الفكرية والسياسية للحزب الحاكم في سوريا تعريفاً محدداً وواضحاً لمعنى المصلحة الوطنية، الذي يتحول في أحيان كثيرة إلى مفاهيم غائمة مثل <<مصلحة الجماهير>>، و<<المصلحة العامة>> و<<المصلحة القومية العليا>>، وغيرها. وفي ظل اضطراب هذه المفاهيم وتشوشها يغيب مفهوم المصلحة الوطنية في الضبابية والغموض، الذي يكتنف جملة المفاهيم والشعارات والمقولات التي طرحتها النخب العسكرية والبيروقراطية الحاكمة.

وقد تعودت النخب الحاكمة على أن تحدد معاني وتوظيفات جملة من المفاهيم المتعلقة بالوطن وفق رؤيتها، وعلى أن يتولى مثقفو الأجهزة التابعة للنظام الترويج للمماهاة الفاضحة بين الوطن والحاكم، ليبقى معنى المصلحة الوطنية في ظل أي نظام هيمنة أو شمولي هو، قبل كل شيء، مصلحة الحاكم، مصلحة الزعيم الأوحد، ومصلحة قوى النظام التابعة له، فيختلط الأمر بين الحاكم الفرد والجماعة، ويصبح الوطن مملكة الحاكم. ثم يعمل الاختزال عمله ليصبح الحاكم هو الوطن، في حين يبقى المواطن معزولاً، مقصياً وهامشياً، ليس أكثر من مجرد رقم في أعداد الرعية، يتلقى الإملاءات والشعارات الفوقية، التي لا يفهم منها سوى الترديد والترهيب.

لا شك في أن المصلحة الوطنية هي من أهم القضايا التي تشغل بال عامة الناس وصناع القرار والنخب المعنية بهموم الوطن، خصوصاً في هذه المرحلة من تاريخ سوريا، حيث أخذ بسطاء الناس فيها يتساءلون بقلق وأسى، وبشيء من الشعور بالإحباط: ترى، إلى أين نحن ذاهبون؟ وما العمل كي نجنب البلد وناسه كل المخاطر؟ وما السبيل إلى القطع مع أساليب العجز في إدارة الأزمات أو في معالجتها، ليطاول السؤال النهج الذي أنتج الممارسات التي سادت خلال عشرات السنوات التي خلت من قبل، ولم نحصد منه سوى المزيد من الانهيار والتردي، وعن الذي عمل على تقويض قدرات القوى الحية في الداخل، وقوّض معها مختلف الفعاليات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فقد ارتكبت باسم المصلحة الوطنية فظاعات عديدة، تمّ بواسطتها عمليات إسكات أصوات القوى الحية في المجتمع، واعتبر فيها صوت السلطة الحاكمة صوتاً ميتافيزيقياً لا يعلى عليه. وجرت إدانات وتخوينات لأفراد ومجموعات وأحزاب وطنية عديدة، لأنها تقول بما يخالف رأي الحزب الحاكم أو الرأي الحاكم والمسيطر. جرى كل ذلك مع أن سوريا تعيش تحت وطأة أزمات بنيوية، تستدعي توزيع الأعباء على مختلف القوى السياسية والاجتماعية في البلد، وفتح باب المشاركة أمام الجميع، كي تسهم قوى المجتمع وفعالياته بدورها الطبيعي.

إن من غير الممكن النظر في مصالح الجماعات الوطنية من غير النظر إلى الانتماء للدولة، أو بتعبير أدق من غير أن يمتلك الفرد في الدولة الإحساس بالمواطنة، وهو ما يترجم ضرورة مشاركة المواطنين في صنع القرار وفي الانتخابات المحلية والبرلمانية، وإحساسهم بالأمن الاقتصادي، عن طريق ضمان حقهم في التملك وفي العمل، فضلاً عن الإحساس بالأمن الاجتماعي. وعليه تصبح المصلحة الوطنية مرادفاً لمصلحة مجموع أفراد المجتمع. ولا يمكن للفرد أن يحس بوجوده السياسي والاجتماعي والاقتصادي في ظل قوانين الطوارئ والأحكام العرفية، بوصفها القوانين والأحكام التي بقيت طوال أكثر من أربعين سنة امتيازاً مطلقاً بيد السلطات الحاكمة، وما زالت سيفاً مسلطاً على الحريات العامة والفردية، كلما اقتضت <<ضرورات>> المصلحة الحاكمة.

وليس جديداً أن تتحقق المصلحة الوطنية وفق مصالح الوطن وجملة المواطنين، أي مصلحة مختلف أفراد الشعب وفئاته، كي تأخذ صفة المصلحة الجماعية، لا مصلحة أفراد النخب الحاكمة. وهي تتحدد في تحقيق مصالح الشعب، عبر تأمين أساسيات الحياة من فرص عمل ومسكن والاهتمام بالرعاية الصحية وتوفير فرص للتعليم، والحفاظ على سلامة التراب الوطني، بحيث لا ينعزل الفرد عن هموم وطنه، وخصوصاً في حالة الأزمة أو الحرب، فأمن المواطن يسبق أمن الوطن، وإن كانت العلاقة بين الفرد والمواطن تقوم في جوهرها على الأخذ والعطاء، فإنه بقدر ما يأخذ المواطن سيعطي الوطن. وبالتالي إذا وظفت المصلحة الوطنية بوصفها مصلحة الشعب في مجموع أفراده وفئاته، سواء كانت مصلحة خارجية أم داخلية وبمكوناتها المختلفة، فإنها لا تنهض بدون نظام ديموقراطي، يضمن الحريات السياسية والمدنية، ونظام اقتصادي يبني ويشيّد مصلحة المواطن، بما يحقق التنمية والعدالة الاجتماعية، بحيث لا تستأثر فئة أو ثلة بثمار وخيرات الوطن على حساب باقي الفئات.

وقد بينت تجارب الدول الحديثة أن مصلحة الشعب تضمر في ظل النظام الشمولي والديكتاتوري، في حين أنه في ظل النظام الديموقراطي يتحقق التقارب والتطابق ما بين المصلحة الوطنية ومصلحة الشعب، وذلك بفضل المؤسسات الديموقراطية التي تسمح بحرية الرأي والتعبير والاختلاف في وجهات النظر، والخضوع لسيادة القانون، لأن الحاكم يكون تحت رقابة الشعب. وفي ظل الأوضاع المأزومة التي تعيشها اليوم البلدان العربية، فإنه من الضروري أن تتصالح النخب الحاكمة مع مجتمعاتها، تحقيقاً للمصلحة الوطنية، ولمواجهة الضغوطات الأميركية، أو على الأقل تحصين بلدانها ضد المخططات والمشاريع الأميركية التي تحاول تغيير الخارطة العربية وفق أولويات المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية ومصالح من يمثلونهم.