الشرق الأوسط / مشاري الذايدي

حضور سوريا في لبنان لم يكن أمنيا وسياسيا فقط. وحينما تهشم الابريق السوري في لبنان، فإن بقاياه وشظاياه تقسمت الى جزيئات دقيقة، أظهرها للعين: السياسة والامن، لكن هناك الاعلام والثقافة و«البزنس»، وهناك حلقات لبنانية بقيت تدور، كما حلقات الدخان، على حطب نار الحكم السوري.

آخر ملامح هذا البقاء السوري، منطقة قد تبدو بعيدة عن نشاطات السياسي المباشرة، أعني انتخابات المجلس الشرعي الاسلامي الاعلى الذي يمثل تجمعا رسميا لعلماء الطائفة السنية، وما ثار حولها من جدل ونقاش «داخلي» ساخن في لبنان.

البعض رأى في هذه الانتخابات الجديدة التي تتم بإشراف المفتي رشيد قباني، لأول مرة من 40 سنة، مظهرا من مظاهر مقاومة التيار السني «الحريري» لمحاصرة الاثر السوري «الديني» على الطائفة، وشكل هذه المقاومة تجلى في إقصاء جماعة الاحباش السنية عن الدخول للمجلس، خصوصا بعد استعادة المساجد السنية التي هيمن عليها الاحباش بمباركة سورية في فترات سابقة. والاحباش، كما هو ذائع، جماعة سنية موالية للحكم السوري، وتحارب المرجعية السنية التقليدية، من موقع اشعري صوفي، بحجة ان التقليد السني المحلي متأثر بالسلفية. وهي موالية للحكم السوري الى درجة الحديث عن تورطها بشكل ما في اغتيال الحريري، حسب تقرير ميلس.

ومع ان البنى الاجتماعية التقليدية، وكذلك الدينية، لا تصنع بفرمان أو أمر رئاسي، بل هي نتاج مخاض طويل من التاريخ والاحداث الاستثنائية، إلا أن الحكم السوري نجح، ربما بسبب استثنائية المشهد اللبناني، في خلخلة شيء من هذه البنى وايجاد تيارات جديدة، زال موجدها السوري، الى حد كبير، ولكنها ستبقى، تماما كما بقيت الفرق الاسلامية في تاريخنا كمدارس واتجاهات كبرى، رغم زوال عصر الفتنة الكبرى والصراع الأموي ـ الهاشمي...

ينجح الحكم الاستثنائي في التأثير على البنى التقليدية، خصوصا اذا كان استثنائيا في طوله وقسوته وشموله وانعدام قوة المعارضة الموازنة.

هناك أمثلة واضحة على ذلك، في العراق. فقد غيّر صدام كثيرا، ودخل في صلب التركيبة السكانية عابثا، سواء في حركة تعريب الاكراد او التلاعب بالعشائر، بعدة صور حسب ظروف اللحظة السياسية، من ذلك: إضعاف شيخ العشيرة التقليدي وخلق زعامات جديدة. وهذه كانت سجية لحزب البعث منذ ايام البكر، والحيلة التي اتبعت في هذا الصدد هي من خلال ما عرف باسم الجمعيات الفلاحية التي أسس لها البعث في 1969 وأول السبعينات، وكان عزت الدوري وصدام نفسه مشرفين على هذه الجمعيات التي كانت تقوم بمهام شيخ العشيرة التقليدية، وكان حاكم المحافظة اذا أراد تعيين رئيس للجمعية الفلاحية يدور على اهالي البلدة و أفراد العشيرة، ويتشاور معهم في شخص رئيس الجمعية، متجاوزا الشيخ التقليدي، الذي يتفرج على هذه السلطة الجديدة وهو لايملك حولا ولا طولا. تضاءل دور الشيخ، لكنه لم ينته، إذ سرعان ما عاد صدام الى احضان شيوخ العشائر التقليديين وبدأ ينفخ في أوار العشائرية ومد زعماء العشائر بالسلاح، بعد تضعضع نظامه.

وانقلب على «تقدميته»، فقد كان يقدم نفسه باعتباره ثائرا على العادات البائدة والعشائرية! كما كان يبشر فؤاد الركابي وغيره من مثقفي البعث القدماء.

البعث السوري فعل شيئا مقاربا، اقصد التأثير على البنى التقليدية، وسنقتصر على ميدان الطائفة السنية اللبنانية، التي فجعت بقتل زعيمها الضخم رفيق الحريري على يد الحكم السوري. وسنقتصر ايضا على محاولة التأثير على البنية المذهبية السنية.

أبرز مثال على ذلك، هو خلق جماعة «الاحباش» داخل الفناء السني، وهي الجماعة التي تضررت اكبر الضرر من انتخابات المجلس الاسلامي الشرعي الاعلى (السني) التي اشرنا اليها. الانتخابات شهدت جدلا بسبب ما اعتبرته بعض الاطراف السنية، خصوصا الاخوان المسلمين، استبعادا لهم من التمثيل في مجلس علماء السنة في لبنان بسبب التشدد في شروط الهيئة الناخبة، لكن المراقبين يرون ان هذا التشدد، من المفتي رشيد قباني بدعم من الرئيس السنيورة، هو لتحجيم الاحباش. وقد اشار لذلك الامين العام للجماعة الاسلامية (اخوان مسلمون) فيصل مولوي، لكنه أبدى تذمره من إبعاد علماء آخرين، ربما علماء الاخوان، بسبب هذا التشدد.

هنا نرى أن زعامة السنة اللبنانية السياسية والدينية «التقليدية» تحاول استعادة الطائفة، وملاحقة الاثر السوري على ملامح التدين السني «الاحباش»، وتقوية التقليد السني من خلال عدم الحرص على الاسلاميين المسيسين (شكوى الجماعة الاسلامية الاخوانية).

الحفاظ على شكل معين للثقافة الدينية، وتيارات بعينها، ورموز بذاتها، هو جزء رئيس من الصراعات السياسية في عالمنا العربي، مع جماعات المعارضة ذات الطابع الديني. وبحكم رسوخ وتجذر العاطفة الدينية لدى مجتمعاتنا العربية والاسلامية، فإن بعض السياسيين العلمانيين، يحرصون على عدم ترك هذا الملف من دون رقابة واحيانا تشديد، ومن دون مراعاة له. ولذلك، قد تجد شخصا نكل بالاسلاميين في الامس، يرجع الى احضانهم اليوم، وتجد سياسيا همش حضور رجال الدين او حارب نفوذهم، يعود ليتحدث بلغتهم ويستعير لسانهم. ونموذج صدام حسين وهو يعاتب المحكمة على عدم التوقف لأداء الصلاة، او الايات القرآنية التي يستهل بها مداخلاته (يتلوها بشكل غير محترف!)، وتأثر كثير من الناس بهذه اللغة الدينية التي يقولها «المجاهد» صدام، كل هذا يكشف عن المسافة الفارغة في عقول المتلقين بين الدين والسياسة، هذه المساحة التي يبني فيها «فجرة» السياسة ابراجا من الاوهام تحجب النظر عن رؤية ألاعيب السياسة خلف سجادة الصلاة، وذئبية اللاعب السياسي المتوارية خلف سماحة الوجه الخاشع...

من الشاق طبعا الكشف بشكل كامل عن مظاهر الاستخدامات المتبادلة بين السياسي والديني في عالمنا، لكن الصورة المشهورة هي صورة توظيف السياسي للديني، على طريقة العبارة الشهيرة «المنسوبة» لعبد الناصر حينما قال عن أحد الشيوخ هازئا: «اعطيه فرخة يعطيك فتوى»، فهناك صور اخرى أكثر التباسا وتمويها، وهي استخدام الديني للسياسي، فهما، السياسي والديني، على وعي بالعلاقة التبادلية فيما بينهما، ولذلك يتحدث البعض عن التحالف الذي يبنيه الآن المفتي اللبناني الشيخ قباني مع التيار الحريري، من بين سائر القوى السنية الاخرى!

هذه العلاقة وتعقيداتها، ليست مسألة خاصة بطائفة دون اخرى، ولا بدين دون آخر، ولا بعصر دون عصر، فما دام التأثير الديني قويا سيظل تلون السياسة بالدين موجودا، وما دام التأثير الديني غير متمدد على كل المجالات، وسلطة الشيوخ ليست مبسوطة على مختلف حقول الحياة، والعاطفة الدينية موجودة في اطارها الطبيعي، فإننا نجد الديني هو الذي يتلون بلون السياسي.

إننا إذا رأينا هذا الحضور الغزير في كل التفاصيل الحياتية لاجتهادات «بشر» من الشيوخ والفقهاء وحتى اشباه الفقهاء، في بلدان الخليج مثلا، فإننا ندرك حجم القوة السياسية لهذه الطبقة في هذه الحال، وهذا المفصل من زمننا. ولعل ازمة الفتاوى ومهرجان التحليل والتحريم المتعلق بجواز او عدم جواز الاكتتاب في الشركات الموجودة في اسواق الاسهم، لعل هذا يشير الى طرف من هذه العلاقة المعقدة بين السياسي والديني في مرابعنا.

هذا الحديث متشعب وملغوم، فدعونا نلجأ للتاريخ!

حكي عن الشاعر العباسي الشهير علي بن جبلة الانباري، الشهير بـ(العكوّك) أنه كان ميالا لمعارضة الخليفة المأمون، وقال قصيدة ذائعة في مدح القائد ابي دلف القاسم العجلي، جاء فيها :

انما الدنيا ابودلف * بين باديه ومحتضره

فاذا ولى ابودلف * ولت الدنيا على أثره

كل من في الارض من عرب * بين باديه إلى حضره

مستعير منك مكرمة * يكتسيها يوم مفتخره

فغضب المأمون غضبا شديدا وقال: اطلبوه حيثما كان. فهرب الشاعر إلى الجزيرة ثم هرب إلى الشامات، فظفروا به وحملوه مقيدا إلى المأمون، فقال له المأمون: يا ابن اللخناء انت القائل للقاسم بن عيسى (ابو دلف) كل من في الارض... وأنشد البيتين، جعلتنا ممن يستعير المكارم منه والافتخار به! فقال الشاعر: يا أمير المؤمنين أنتم اهل بيت لا يقاس بكم غيركم ... وجعل يعتذر، عندها قال المأمون: أنا لا أستحل دمك بكلمتك هذه، ولكني أستحله بكفرك في شعرك حيث قلت في عبد ذليل مهين فأشركت بالله العظيم:

انت الذي تنزل الايام منزلها * وتنقل الدهر من حال إلى حال

وما مددت مدى طرف إلى حد * إلا قضيت بأرزاق وآجال

قال: اخرجوا لسانه من قفاه فأخرجوا لسانه من قفاه فمات، كان ذلك ببغداد سنة 213 للهجرة.

احترام السياسي للدين، هو واجبه الذي لا محيد عنه، وليست المشكلة في طلب الديني من السياسي التسهيل له وضمان قدرته على رعاية حاجات الناس الى التوجيه والارشاد الديني، المشكلة، كل المشكلة، هي حينما يتحول الامر الى استخدامات دينية، في مجال السياسة، واستخدامات سياسية في مجال الدين، لأن السياسة لا تصبح راشدة بهذا الامتزاج بالدين، وصورة الدين العالية لا تسلم من لطخات السياسة.

لا ندري، هل نستطيع إبقاء البوابات الخلفية للسياسية موصدة بوجه من يريد الدخول على عربة الدين، او حماية الروضة الدينية ممن يريد تجريفها، وزرع بذور محسوبة بقياس حتى لا تثمر الا حنطة تصب في مخازن السياسي... وحتى ندري، فذلك هو التحدي الكبير...