النهار / تركي علي الربيعو

هل هناك شيء آخر غير الموت في لبنان؟ سؤال استنكاري لا يلمح من لبنان اليوم إلا فردوسه الدامي وعرسه الدامي الذي خطه أعداء الرئيس الشهيد رفيق الحريري دون أن تعرف نهايته. فما بين اغتيال واغتيال ثمة اغتيال وأي اغتيال. فقد تفوق الاغتيال السياسي في زماننا المشؤوم هذا على كل أشكال الاغتيال التي عرفتها البشرية في تاريخها الطويل وليلها الدامي، فلم يعد الاغتيال مرهوناً بطلقة أو بطعنة سكين أو دسٍ للسم في لحظة غفلة، بل بات ضرباً من "الإبداع من نوافذ جهنم" الذي تتسابق فيه الأصوليات والميليشيات القادمة من المجهول التي تحركها رغبة جنونية بالثأر والانتقام، كذلك دولة شرق المتوسط، كما سمّاها الروائي عبد الرحمن منيف التي تتكاثر فيها "أوكار الهزيمة" كفطر ذري سام.

ما يومٌ ينشق فجره إلا وديك "النهار"- كذلك كل ديكة لبنان- يصدح بصوته، ينادي اللبنانيين أن هلموا إلى يوم جديد، ولكن ديك النهار يدرك ككل الديكة في لبنان، أن صياحه محسوب عليه، فهناك من هو معجب بصياحه وهناك من يعد عليه كل نبرة في صياحه، حتى أنفاسه، يترقبه، يرصد تحركاته في كل مكان، يكتب قائمة بالمعجبين به، يوزعها على طريقة الأصوليات التي تحصي على الكتاب إبداعاتهم لتضعها في خانة التكفير، وبالتالي على قائمة الرؤوس المطلوب قطفها.

في واحدة من مطارحاتها الثقافية الجميلة، تكتب صاحبة "عابر سرير" أي الروائية المبدعة أحلام مستغانمي تقول: كنا نكتب لقارئ مجهول فأصبحنا نكتب لقاتل مجهول. هذا القاتل ينحدر من "أوكار الهزيمة" التي تعشش في دولة شرق المتوسط، ينحدر كمسخ، لنقل أيضاً، كشيطان غدر، فثمة شبه كبير بين جبال الاولمب في الميثولوجيا الإغريقية، وأوكار الهزيمة، كلاهما مملوء بالمسوخ وبالشياطين المتعطشة للدم واللحم البشريين.

يدرك المثقفون اللبنانيون والسياسيون أيضاً، أصحاب القلم والسلطة معاً، أن ذلك القاتل المجهول يتربص بهم، ويرصد حركاتهم، ويزرع لهم على ضفتي الطريق مئات الكيلوغرامات من المتفجرات من مادة الـ TNT. يقعد متربصاً بهم، حتى تمر قافلتهم، فيضغط على الزر وعندها تنفتح كل فوهات جهنم، فتتطاير الأشلاء والضحايا في كل الجهات. ما يلفت النظر في الحالة اللبنانية، أن هذا المسخ المجهول والقاتل المجهول، قد أخذ استراحة ما بين موتين جهنميين. فما بين اغتيال الرئيس الحريري واغتيال جبران تويني، بدا على هذا الديناصور شيء من الرحمة لقاتليه مع أن الديناصورات لا تعرف الرحمة. فالاغتيال الذي تعرض له كل من سمير قصير وجورج حاوي ومي شدياق كان حصرياً بهم، ينبئ عن حرفة ومقدرة عالية في طريقة القتل والتعذيب، وهو فن الإمساك بالحياة مع أعلى درجات التعذيب كما حدث مع مي شدياق، أما في حالة الرئيس الحريري وكذلك جبران تويني، فقد فتحت طاقة من طاقات جهنم كما أسلفت. طاقة تشهد على حالة من عودة القاتل المجهول إلى بدائيته المتوحشة ومرجعيته الديناصورية، التي لا ترى العالم إلا من خلال دماغها الصغير الذي قيل كثيراً إنه كان السبب في انقراض الديناصورات من العالم.

وحدهم أنبياء هذا الزمن، المصلوبون على مذبح دولة شرق المتوسط، والمقدمون كقرابين على نصبها التي لا ترتوي من الدم، كذلك المنذورون لاحقاً للموت على أعتاب أوكار الهزيمة، قادرون على هزيمة ديناصورات الحديقة الجوراسية المتعطشة لمزيد من الدم اللبناني، فبصلابتهم يستطيعون أن يهزموها، وبتلاحمهم يقفون سداً في وجهها، وهذا ما يفسر قول هذا اليسوعي الناصري الجديد، أي المنكوب مرات ومرات وأقصد أستاذنا غسان تويني أعانه الله: "أنا أدعو اليوم في هذه المناسبة لا إلى انتقام ولا إلى حقد ولا إلى دم، أدعو إلى أن ندفن مع جبران الأحقاد كلها والكلام الخلافي كله، وأن ننادي بصوت واحد ذلك القسم الذي أطلقه في ساحة الشهداء يوم انتفاضة 2005 التي ذهب ضحيتها".