نجيب نصير

لا أدري كم مرة قرأت، ولم اعرف المدة التي انقضت مذ تعرفي على مفردة شديدة الأهمية والوقع والتكرار في ذهنيتنا ( العربية ). هذه الكلمة شكلت لي وعلى الدوام حالة من النواس بين الراحة العقلية والسخرية من التاريخ واللغة ومعها ما يشبه الرعب من التفكير المبني على مقدمات متوارية، لا أحد يجرؤ على كشف الغطاء عنها أو حتى التفكير بماهيتها، فتتحول إلى تابو نستند إليه بثقة عند التفكير وما قد ينتج عنه من ممارسة لا يخطر على بالنا وضع خطورتها في البال، حتى لو وقعت الفاس بالراس....

هذه المفردة شديدة الضرورة في أدبياتنا هي الشعوبية.. مفردة. أدري وربما لا أريد ان ابدأ بتعريف لها حيث لا تعريف حقيقي ولا واه لها، كلمة... مفردة ... حضرت كنبت شيطاني ونمت كشتيمة ثقافية سياسية عنصرية، وكأنها اختصار لإحصاء طويل عريض للذين يكرهوننا من عجم وأعاجم وعجماويين وكأننا في صدد ( اغيار ) ما. لا يزالون يكيدون لنا الاحابل في سبيل إيقاعنا في شر ما يخططون وينفذون لهذه الأمة التي لا يعرف أحد متى وجدت ولماذا هي موجودة..إذا كانت موجودة، وهل الشعوبية سابقة أم لاحقة لوجودها، وهل الأمة سعت وذهبت إليها ( أي الشعوبية )، أم هي نفسها تنكرت ودخلت في الأمة كي تفسدها... شيء من الهيولى الفكرية الساذجة لا يمكن إمساكها أو التفكير بها من أي مكان. ومع هذا هي إحدى ديناميات التفكير ( العربي ) في كل الأزمان، فما ان تطالعنا مشكلة ما حتى نفتش عن سبب شعوبي لنرمي عليه إخفاقاتنا في معالجة المشكلة ( ربما لا يوجد مشكلة في الأساس وإنما حراك طبيعي للاجتماع البشري كسقوط الدولة العباسية التي لما نزل نبكيها ونتهم الشعوبية بإسقاطها ناهيك عن مرض الإيدز الذي أصيب به هارون الرشيد منتقلا له من أبي نواس و ملطشة الكهرباء التي أكلها المأمون وأدت إلى وا... معتصماه الخ الخ ).

هكذا كبرت كلمة الشعوبية لتسيطر على عقلنا وتريحه ويفيض منها ما يمكن تصديره إلى جورج بوش والمحافظون الجدد ، فحملناها أسباب الانحطاط وصراعات الخلفاء وتسلط الولاة وتهافت الشعر والنثر وكل سيئة يمكن للمرء تخيلها صدرت عن هذه الشعوبية القبيحة .

أما بعد ما هي الشعوبية ؟؟ أليست تقييم لتاريخ الذي في حال كان انتصارا أو نجاحا حسب لنا وإذا كان فشل حسب على الشعوبية وهي نظرة صبيانية للتاريخ، أليست الشعوبية هي من أنتج ذاك الاندماج والإطلاع الكوزموبولتي ليطلع أهل الصحراء على منجزات المدنية ؟ وهل كان في التاريخ العربي قبل الشعوبية علوم كالكيمياء والفلك والرياضيات ؟ وهل كان ابن سينا والفارابي والخوارزمي من نتاج الصفاء العرقي والفكري، أم أنها لفظة وسقطت من فم مقدس لا تدانى ولا تقرب فتتحول إلى بلسم يشفي جروح الهزائم.

لا يوجد شيء اسمه شعوبية إلا بالمعنى الايجابي في الاجتماع البشري، فالتثاقف واستكناه تجارب الشعوب والتلاقح معها هو ليس من طرف واحد فلكل شعوب الأرض ملامحها ومعارفها ولم ينتظر احد العرب كي ترقيه وترفع من شأنه، ولم يكن لدى أي من شعوب الأرض نقص في الملوك والولاة حتى تنتظر وال أو أمير عربي كي تقوم بانقلاب علية من اجل ان تسمى شعوبية مدمرة.

الم اقل لكم أنها لفظة بلا معنى خارج الحنجرة، لأن ما أن يسمع بها العقل حتى تتفتت وتتناهى إلى بكائيات وندب، أنها علاك متفاصح، وإذا كان لا بد هذه اللفظة ان تطلق، فليكن من اجل تبجيل امتزاج ثقافات الشعوب ومعارفها وإذا كانت للأمة من صفات خصوصية فان هذه الصفات سوف تظهر شئنا أم أبينا، اللهم إلا إذا اخترنا ان تكون خصوصيتنا الفريدة هي تدبيج المصطلحات من اجل تبرير الفشل عندها لن تكون هناك أية مسافة واضحة تفصلنا عن أي خصم أننا نائمون فيه أننا جزء من فعاليته.