غزوان طاهر قرنفل

استتباعا للتدهور الأمني الذي تمثلت آخر تجلياته في جريمة إغتيال الصحافي الراحل جبران تويني ، تتجاذب الساحة اللبنانية اليوم حال من التدهور السياسي إثر قرار مجلس الوزراء اللبناني الطلب من مجلس الأمن إنشاء محكمة دولية لمحاكمة المتهمين بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وتوسيع صلاحية لجنة التحقيق الدولية لتشمل كافة جرائم الاغتيال ومحاولات الاغتيال التي تمت في لبنان منذ المحاولة الآثمة لاغتيال الوزير والنائب مروان حمادة وحتى جريمة اغتيال النائب تويني ، وما استتبع ذلك من انسحاب وزراء حزب الله وحركة أمل من جلسة الحكومة وتعليق عضويتهم فيها احتجاجا على هذا القرار الذي يعتبرونه تدويلا للأزمة واستدراجا لوصاية دولية على لبنان .. وماتبع ذلك من ردود أفعال على الجانب الآخر تطالب بإنهاء الوضع الشاذ على مستوى رئاسة الجمهورية والمطالبة بتطهير الوزارات والإدارات الأمنية والقضائية ممن تبقى ممن يعتبرونهم بقايا النظام الأمني السوري اللبناني ، في محاولة لوضع حد لحال التدهور الأمني والخروج من نفق الأزمة تمهيدا للإقلاع بالوضعين السياسي والاقتصادي اللذين يعانيان من ركود يصل إلى حد السكونية .

وعلى الرغم من أن وزراء حركة أمل هم جزء من الأزمة الحكومية والسياسية في لبنان اليوم إلا أن الرئيس نبيه بري حاول الإمساك بزمام المبادرة وأطلق عناوين للحوار الوطني في محاولة لإنهاء حال التأزم السياسي والانقسام الحكومي ماتزال نتائجها وثمارها لم تنضج بعد .

واللافت في هذا المجال أن حزب الله رفع من سقف مطالباته إلى حدها الأقصى عندما طالب الحكومة في واحدة من جولات هذا الحوار وتسرب مضمون هذا المطلب للصحافة ، بأن تبادر الحكومة اللبنانية مجتمعة لإرسال رسالة إلى مجلس الأمن الدولي تؤكد فيه أن القرار الدولي رقم 1559 قد نفذ لبنانيا (!) وذلك في محاولة منه لقطع أي طريق على أي طرح دولي أو داخلي من شأنه البحث في مصير سلاح المقاومة مستقبلا.

ورغم تأكيدنا على أهمية بل وضرورة الحوار الداخلي اللبناني إلا أن هذا المطلب باعتقادي لايمثل بداية مشجعة لأي حوار بل على العكس فإن من شأن ذلك أن يوسع الفجوة بين الفرقاء اللبنانيين كافة ... بل إن هذا المطلب هو أقرب إلى الابتزاز السياسي منه إلى قاعدة للحوار ، وذلك من شأنه أن يستهلك الكثير من رصيد المقاومة وانجازها التاريخي في تحرير الجنوب اللبناني ، ويضعف من كيان الدولة اللبنانية وهيبتها دون أن يضيف إلى رصيد حزب الله بالضرورة ، والذي لايجوز له ولا لغيره من الفرقاء أن يضع الدولة اللبنانية في حال من التصادم مع المجتمع الدولي بأسره .

إن احترامنا للمقاومة اللبنانية وانجازاتها لاتمنعنا من القول اليوم أنه من غير الجائز ومن غير المقبول أن يكون سلاح هذه المقاومة باق إلى مالا نهاية ... وأن احترامنا لحزب الله ليس أكثر من احترامنا للدولة اللبنانية ... وليس ثمة دولة في العالم كله تقبل بوجود حزب سياسي فيها له جيش مستقل عن جيشها ، وسلاح مستقل عن سلاحها ، وقرار بالحرب والسلم منفصل عن قرارها ..

ثم من قال أن سلاح المقاومة هو فوق البحث والحوار الداخلي .. وكيف يجيز حزب الله لنفسه تدويل علاقاته وامتداداته ويحرم ذلك على الآخرين ، وكيف يطالب باتخاذ القرارات المصيرية بالتوافق والحوار ويرفض في ذات الوقت أن يكون سلاحه مطروحا للحوار ... وماينطبق على حزب الله ينطبق على غيره من القوى وخصوصا في المخيمات الفلسطينية التي يجب أيضا أن تكون خاضعة بالكامل لسلطان القانون اللبناني وهذا مايفرض علينا أن نتساءل على ماذا يتم الحوار وعن ماذا يجب أن يتم هذا الحوار؟.

وإذا كان الجواب على هذا السؤال هو شأن اللبنانيين أنفسهم وهم الأقدر على تلمس أوجاعهم ، وتلمس مكامن القوة في نظامهم الديمقراطي الذي يتيح لهم التحاور في كل شيء .. فإن الإجابة على أي سؤال لابد من أن تبدأ بالتساؤل هل نريد بناء دولة لبنان الحديث الآمن المستقر والمستقل والقادر على إدارة شؤونه بنفسه والدفاع عن استقلاله بنفسه ؟ أم نريد التأسيس للبنانات هزيلة تتجاذبها المصالح الضيقة والأهواء والتناحرات الاقليمية والدولية ليعود لبنان إلى طاحونة القتل والاقتتال ؟ .

إن التفاعلات الجارية على الساحة اللبنانية اليوم تفرض علينا طرح هذا السؤال بجرأة ووضوح دون أية تورية أو مواربة ، كما تفرض علينا القول بجرأة أيضا أن أي حوار وطني لبناني داخلي لن يكتب له النجاح مالم يكن تحت السقف الوطني اللبناني مع الأخذ بعين الاعتبار كافة الأوضاع والمعطيات العربية والدولية المحيطة به ، فلبنان الذي هو جزء من العالم العربي هو أيضا جزء من العالم ، وهو كما يحتاج محيطه العربي فإنه أيضا بحاجة للدعم الدولي حتى يتمكن من النهوض والتأسيس لدولة حديثة ترعى مصالحها الوطنية ومصالح شعبها دون التصادم بالضرورة مع مصالح هذين المحيطين العربي والدولي ...

كما أن أي حوار وطني لبناني داخلي لن يحقق أي نتائج ويخرج لبنان من نفق التأزم السياسي والأمني والاقتصادي مالم تتح الفرصة لكل الفرقاء فيه بطرح كل هواجسهم على طاولة الحوار للوصول إلى نتائج تبدد المخاوف وتؤسس لبناء لحمة وطنية حقيقية تمتلك رؤية ومشروع وطني لبناني يحترم التنوع في الإطار الوطني العام ويقوي لبنان الحر المستقل والقادر على إدارة دفة شؤونه بنفسه بعيدا عن المهاترات الداخلية والتدخلات الاقليمية والدولية ليكون اللبنانيون للبنانهم وليس فاتورة لغيرهم تدفع على موائد المقامرات والمؤامرات والمصالح الاقليمية والدولية .

إن الدولة اللبنانية التي استطاعت أن تحمي المقاومة وتكون لها عمقا وطنيا داخليا وغطاء خارجيا دوليا ، تستطيع أن تحمي استقلال لبنان وسيادته إذا ما أجمع اللبنانيون على أنهم كذلك .

في كلمته المقتضبة التي ودع فيها نجله الراحل قال غسان تويني : ( لاأدعو اليوم لا إلى انتقام ولاحقد ولا دم بل أدعو أن ندفن مع جبران الأحقاد كلها ) .. وأعتقد جازما أن اللبنانيون اليوم هم أقدر على دفن خلافاتهم إذا ماقرروا أن يكونوا صدى لأنفسهم وكفوا عن أن يكونوا رجع صدى لغيرهم .