النهار/سركيس نعوم

اثارت الاخبار عن احتمال حصول تسوية او "صفقة" بين سوريا والولايات المتحدة والتي تداولتها وسائل الاعلام في لبنان والعالم العربي في الاسابيع الأخيرة او عن جهود تبذلها دول شقيقة للبنان واخرى صديقة بغية التوصل اليها - اثارت الكثير من ردود الفعل السلبية لدى اوساط سياسية لبنانية عدة. ذلك ان لبنان اكتوى من الصفقات في السابق اكثر من مرة كانت اخرها صفقة عام 1989 التي انتجت اتفاق الطائف ثم صفقة 1990 – 1991 التي سمحت بازالة العائق اللبناني الوحيد امام تطبيق هذا الاتفاق في ذلك الوقت، اي العماد ميشال عون رئيس الحكومة الانتقالية العسكرية. ولم يكن اكتواء اللبنانيين من التسوية في ذاتها لان الهدف منها كان وقف الحروب في ما بينهم وحروب الاخرين بواسطتهم، وارساء دعائم اتفاق سياسي وطني بل ميثاق يجنبهم العودة الى القتال مستقبلا، بل كان من اقدام المكلفين مساعدة اللبنانيين على تطبيق التسوية على توظيفها بغية تحقيق غايات واهداف وحماية مصالح لم تكن كلها ملائمة للبنان الكيان والوطن والدولة والاستقلال والحرية. وتجاهل المجتمع الدولي ممثلا في ذلك الوقت باميركا ومعه المجتمع العربي الخرق الكبير الذي مارسه المكلفون تنفيذ الطائف طالما انهم كانوا مستمرين في عدم تعطيل مصالح هذين المجتمعين او على الاقل معظمها.

واثارت الاخبار نفسها عن احتمال حصول تسوية او "صفقة" بين سوريا والولايات المتحدة ردود فعل اميركية رسمية وغير رسمية نافية، ظهرت في وسائل الاعلام اللبنانية والعربية، علما ان ما نشر عنها وخصوصا في هذه الزاوية ركز على مساع تبذل "لتحقيقها" واستند الى معلومات جهات رسمية لبنانية وعربية ودولية ولم يشر في اي شكل من الاشكال الى ان التسوية او "الصفقة" صارت واضحة او مكتملة او ربما نافذة. واثارت في الوقت نفسه اعتراض صديق اميركي كانت له باع طويلة وربما لا تزال، في الوضع اللبناني والعلاقة الاميركية – السورية على مدى سنوات طويلة ومتابع مستمر لتطور هذين الموضوعين وربما انزعاجه او خيبته. وقد عبر عن هذين الاعتراض او الخيبة بوصف للوضع الحالي للعلاقة بين واشنطن ودمشق هادفا بذلك الى نفي اي "صفقة" او تسوية او بالاحرى اي مسعى او جهد لتحقيقها.

ماذا في الوصف المذكور؟

فيه اولا ان تسوية او "صفقة" مع سوريا على حساب لبنان ليست واردة عند الادارة الاميركية والمسؤولين الكبار فيها وان على اللبنانيين ان يكونوا واثقين من ذلك وان يتصرفوا في الوقت نفسه بطريقة حكيمة وصلبة لاعادة ترتيب الاوضاع في وطنهم. ومن شأن ذلك ثبات الادارة المذكورة على خيارها مساعدتهم لاستعادة بلادهم. وفيه ثانيا ان الادارة الاميركية تعطي حاليا كل الاطراف وخصوصا في الموضوع اللبناني – السوري توقفا موقتا (استراحة) لاعادة التفكير في كل ما يجري وفي مواقفهم منه وللتصرف انطلاقا من ذلك. وفي مقدم هؤلاء الاطراف سوريا بشار الاسد رغم ان واشنطن، الرسمية وغير الرسمية، غير مقتنعة بقدرتها على انجاز تسوية او على تنفيذ التزاماتها بموجبها. وفيه ثالثا ان التوقف الموقت يفيد الرئيس جورج بوش لاسباب عدة. اولها، انه يخفف الانتقادات الحادة التي توجه اليه داخل بلاده سواء من حزبه او من الحزب الديموقراطي المعارض ويسمح له بالتركيز من جديد على النجاحات التي حققها اخيرا في العراق (اجراء الانتخابات) وفي حربه على المتطرفين والارهابيين. وثانيها، رغبة بوش في عودة شعبيته الى الارتفاع في استطلاعات الرأي داخل بلاده لان من شأن ذلك اقناع الحزب الذي ينتمي اليه بانه لا يزال يتمتع بدعم الشعب وتاليا منع قادته من الابتعاد عنه. وثالثها، يريد بوش قبل توجيه ضربة عسكرية خاطفة الى سوريا اذا وجد انها ضرورية ان يطبّع الوضع في العراق وان يشيع الاستقرار فيه بعد الانتخابات وذلك بالمساعدة على تأليف حكومة مستندة الى نتائجها والاسراع في تدريب القوات العسكرية العراقية كي تصبح جاهزة للقيام بدورها. وهذا الهدف يمكن ان يتحقق في رأيه اواخر اذار المقبل. وبحلول هذا التاريخ يكون اتضح لاميركا وكذلك لشركائها الاوروبيين اذا كان هناك امل في المفاوضات الجارية بين الاخيرين والجمهورية الاسلامية الايرانية حول امتلاك طهران قدرة نووية او اذا كان لا بد من احالة هذا الموضوع على مجلس الامن. وبحلول هذا التاريخ ايضا يأمل بوش والاميركيون في ان يكون الرئيس الجديد للجنة التحقيق الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري توصل الى معلومات تصب في الخط الاتهامي الذي توصل اليه سلفه ديتليف ميليس. ورابعها، ان اعتماد سوريا على دعم روسيا الاتحادية والصين الشعبية هو كالاعتماد على "القصب". فهاتان الدولتان الكبيرتان تستطيعان تجميد قرارات في مجلس الامن ومنع الاجماع على قرارات اخرى وممارسة حق "النقض" في قرارات ثالثة، لكنهما لا تسيطران على مجلس الامن ولا على الامم المتحدة. علما ان على سوريا بشار الاسد ان تعرف ان اعتماد سياسة تخيير روسيا والصين بينها وبين اميركا لن تكون مجدية لها لاسباب كثيرة واضحة ومعروفة. وخامسها، ان التوقف الموقت يعطي بوش فرصة للاستمرار في اغلاق المنافذ على سوريا بوسائل عدة منها استصدار مجموعة قرارات جديدة عن مجلس الامن في الاوقات المناسبة تسمح له بالتحرك وفقا للفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة.

ماذا يعني الوصف "الاميركي" المفصل هذا للموقف الاميركي؟

يؤكد ان لا "صفقة" او تسوية على حساب لبنان، ويكرر المواقف الاميركية المتشددة من سوريا. لكنه لا ينفي امكان التسوية. وما الاستراحة او التوقف الموقت، وان وضعها بوش لتشديد الخناق على سوريا، الا الفرصة التي تستطيع سوريا بمساعدة العرب اقتناصها للتفاهم مع اميركا اذا قررت ذلك او اذا رأت ان في وسعها احتمال ثمن هذا التفاهم وتالياً دفعه. ذلك ان التسوية او "الصفقة" في ظل ميزان القوى المعروف يفترض الاميركيون ان تكون في جزء كبير منها تجاوبا مع المطالب المتنوعة لادارة الرئيس جورج بوش.