فهمي الهويدي/الشرق الأوسط

يمثل البرلمان العربي الذي اجتمع لأول مرة في القاهرة أمس، أحدث فرقعة سياسية وإعلامية في الفضاء العربي، لسبب جوهري هو أنه يحاول أن يصطنع شيئاً من لا شيء، ذلك أن أحداً لا يستطيع أن يتذكر أن ثمة برلماناً بحق على المستوى القطري، فكيف يمكن أن نصطنع من ذلك الغائب حضوراً من أي نوع لبرلمان عربي. نعم لدينا أبنية فاخرة لمجالس نيابية، بعضها بالتعيين المباشر والبعض الآخر جاء نتيجة تلاعب في النتائج ووضعنا ازاء حالة من التعيين غير المباشر، وفي حالة أو حالتين استثنائيتين من بين 22 قطراً عربياً، كان هناك تمثيل نسبي للجماهير العربية. لكننا في كل البرلمانات العربية لم نعرف أن أعضاءه حاسبوا مسئولاً أو سحبوا الثقة منه، أو أسقطوا وزارة، أو مرروا تشريعاً لا ترضى عنه السلطة، أو كانوا شركاء في أي قرار سياسي له قيمة.

تلك حقيقة ينبغي أن نعترف بها، وإلا كنا نخدع أنفسنا، ونحاول أن نصدق الأوهام التي يحاول البعض تصديرها إلى الخارج، وإذا شئنا أن نتصارح أكثر، فينبغي أن نضيف اعترافاً آخر، هو أن اغلب خطوات ما سمي بالإصلاح السياسي التي أعلنت في العام الذي نودعه كانت شكلية وبلا فاعلية، وتمت استجابة لضغوط خارجية، أو محاولة لتحسين الصورة في الخارج. وهو ما وصفته في مقام آخر بأنه إصلاح «سياحي» وليس سياسياً، بمعنى أنه كان من قبيل التجمل لإرضاء الآخرين، ولم يكن تعبيراً عن رغبة حقيقية في التجاوب مع رغبات الجماهير العربية الطامحة إلى الحرية والديمقراطية، والراغبة في ممارسة حقوقها في المشاركة والمساءلة وتداول السلطة.

بسبب من ذلك، فلعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن البرلمان العربي الذي يفترض فيه تمثيل شعوب الأمة العربية، سيكون صوتاً للحكومات في نهاية المطاف، وبالتالي فإنه سيكون نسخة معدلة أو صيغة موسعة من مجلس جامعة الدول العربية، التي يعرف الجميع أنه يمثل الأنظمة العربية، ولا صوت فيه للشعوب العربية.

إذ ليس سراً أن الممثلين الأربعة لكل دولة عربية هم من اختيار الأنظمة العربية، ومن المفارقات أن عدد أعضاء البرلمان العربي (الانتقالي) هو 88 عضواً، وهو رقم يماثل عدد ممثلي جماعة الإخوان المسلمين في مجلس الشعب الذي تم انتخابه مؤخراً في مصر. وكما أن ممثلي الإخوان لن يستطيعوا أن يستصدروا من مجلس الأمة قراراً لا ترضى عنه الأغلبية التي يتمتع بها الحزب الوطني الحاكم، فكذلك الحال بالنسبة للبرلمان العربي الذي لن يستطيع أن يقرر شيئاً يتعارض مع رغبة مجلس جامعة الدول العربية، الذي تمثل فيه الأنظمة بصورة مباشرة.

لقد قرأت كتابات متفائلة تحدثت عن دور للبرلمان العربي مماثل لدور البرلمان الأوروبي، وهو تفاؤل ليس في محله من أكثر من زاوية، منها أن البرلمان الأوروبي يمثل مجتمعات استقرت فيها الديمقراطية، ومن ثم فإن له صلاحيات حقيقية يمكن فرضها على الدول الأعضاء، وأهم من ذلك أن هناك رغبة حقيقية لدى دول الاتحاد الأوروبي في إقامة وحدة تجمعها، وتساعدها عن تحقيق مزيد من النمو والرخاء.

هذه الشروط كلها لا وجود لها في العالم العربي، فالديمقراطية غائبة والمجالس النيابية أغلبها أبواق للحكومات، والدول العربية تنافرت سياساتها وتباعدت، حتى بات موضوع العمل العربي المشترك ـ لا تسأل عن الوحدة العربية ـ محل رفض من البعض ومحل شك كبير من آخرين، ثم أن البرلمان العربي الوليد لن تمكنه هذه الخلفية من أن تكون له صلاحيات ذات قيمة. وأشك كثيراً في إمكانية التزام أي دولة عربية بأية قرارات تهم الناس صادرة عنه.

ثمة مفارقة صارخة في هذا الصدد، ذلك أن البرلمانات القائمة حالياً في الدول العربية التي تعجز عن أداء مهمة الرقابة، ناهيك عن التشريع، في داخل كل قطر، يراد لها أن تشكل كياناً جديداً يمارس تلك الرقابة على الصعيد العربي كله، وهو احتمال لا يخطر على بال أحد، ولا أعرف كيف تصور الذين وقفوا وراء البرلمان العربي إمكانية تحقيقه.

لقد أنجز العمل العربي المشترك نجاحاً في مجالين اثنين فقط، أولهما الأمن بمفهومه الضيق، المهجوس بأمن الأنظمة دون غيرها، ولا علاقة له، ولا اقتراب من أي باب بالأمن القومي العربي، حيث لم نسمع يوماً ما أن موضوع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية أو حيازتها للسلاح النووي، أو احتلال الأميركيين للعراق، وهذه من أسوأ مهددات الأمن القومي، لم نسمع أن التعاون الأمني العربي تعرض لها، لكن ذلك التعاون ظل مقصوراً على الاجتماعات الدورية ـ التي لم تتوقف تحت أي ظرف ـ لوزراء الداخلية العرب في تونس، التي تشهد التقارير الدولية بدورها الريادي في قمع المعارضين، وانتهاك حقوق الإنسان، وقد انتعش دور وزراء الداخلية كثيراً بعد أحداث 11 سبتمبر، حيث فتحت لافتة محاربة الإرهاب أفقاً جديداً ورحباً للتوسع في ممارسة الدور الذي تؤديه أجهزة الأمن، ومسوغاً آخر لمواصلة عمليات القمع وانتهاكات حقوق الإنسان، وهو ما لاحظته وسجلته المنظمات الدولية، وفي مقدمتها «هيومان رايتس ووتش».

المجال الثاني الذي تحقق فيه نجاح العمل العربي المشترك هو الفن، حيث لا ينكر أحد أن المهرجانات الفنية التي يشارك فيها المطربون والموسيقيون من مختلف الأقطار، تحولت إلى صرعة اجتاحت الأمة العربية من أقصاها إلى أقصاها، حتى لم يخل الأمر من التنافس بين العواصم العربية في إحياء تلك المناسبات، ولست في مقام تقييم تلك المهرجانات، إلا أن أي نجاح نسبي لها لا فضل فيه للجامعة العربية، ثم إنه لم يتحقق لأنه نشاط يتم في إطار العمل العربي المشترك، لكنه بالصدفة ولأسباب تجارية في الأغلب تم إخراجه على نحو يوحي بذلك الانطباع.

إن الحقيقة التي يتعين علينا أن نقر بها هي أن إرادة العمل العربي المشترك قد تراجعت كثيراً خلال السنوات الأخيرة، وأن بعض الأقطار العربية لم تعد تعول كثيراً على هذه المسألة، وإنما وجدت أن توثيق علاقاتها وتوسيع نطاق تعاونها مع بعض الدول الكبرى أجدى وأنفع، وهو واقع مؤلم تتعدد أسبابه الإقليمية والدولية، ولذلك فقد بات مهماً للغاية أن يتم التعامل مع هذه الحقيقة، ليس من خلال الاستسلام لها، وإنما من خلال محاولة إقناع الأطراف المختلفة بأن مصالحها وأمنها الحقيقيين هما في التعاون مع محيطها بالدرجة الأولى، وأن القوى الكبرى لا تفعل شيئاً لوجه الله ولا محبة في الآخرين، وإنما ما تفعله يتحرى مصالحها واستراتيجيتها بالدرجة الأولى، وحين تكون العلاقة بين قوي وضعيف، فإن «التعاون» لا بد وأن يصب في مصلحة الأول، التي هي بالضرورة متعارضة مع الثاني في نهاية المطاف.

إننا بالبرلمان العربي أضفنا كياناً جديداً إلى مؤسسات ومنظمات الجامعة العربية الراكد بعضها، والفاعل منها ينفخ في القربة المقطوعة، مع استمرار غياب إرادة العمل المشترك. وإذا قال قائل إن شيئاً أفضل من لا شيء، وأن الحركة وإن ظلت في حدود مراوحة المكان، أفضل من القعود والجمود، فقد نجد في منطقه بعض الوجاهة، ولكن «الحركة» التي نحن بصددها الآن لا نستطيع أن ننسبها إلى البركة المرجوة، لأكثر من سبب، فهي تشيع بيننا وهماً كاذباً بأن لدينا برلماناً عربياً، وهو ليس كذلك، ثم أنها تمثل عبئاً اقتصادياً وإدارياً، في الوقت الذي تشكو فيه من شح مواردها المالية.

من أسف أن الجامعة العربية باتت تتحمل الكثير من خطايا وسوءات الواقع العربي، فهي ليست مسؤولة عن غياب الديمقراطية في العالم العربي، وإنما تلك مسؤولية الشعوب ووزر الأنظمة بالدرجة الأولى، ولست أشك في حسن نية الذين تمنوا أن يصبح البرلمان العربي حقيقة وسعوا إلى استيلاده والحفاوة به، لكني أخشى أن يكون الجهد الذي بذل قد أتى لنا بمولود ميت لا حول له ولا قوة.