الوطن القطرية/ صلاح الدين حافظ

لم يشأ هذا العام الكبيس أن يودعنا بعد ساعات‚ قبل أن يترك قنبلة متفجرة في أحضاننا‚ إذ كيف يلوي عنقه الى الخلف دون وداع يحمل مزيدا من الأزمات الصعاب! وهي أزمات تحتاج الى معجزة أسطورية لإنقاذ ما يمكن انقاذه‚ من بين هذا الركام المتفحم المصبوغ بعبثية فوضوية تثير الأسى‚ وبلادة سياسية يعجز عن وصفها اللسان.

فإذا ما اخترنا نموذجا لكل ذلك‚ فإننا سنختار فورا الأزمة السورية - اللبنانية‚ الممتدة بلهيبها اللافح الى المدار العربي كله‚ ثم الى المدار الدولي باتساعه وتنوع قواه.

وقد شهدت الاسابيع الاخيرة من ذاك العام الكبيس‚ تصاعدا سيئا في هذه الأزمة‚ صاحبة هبوط متدن في لغة الحوار المتبادلة‚ على ألسنة بعض السياسيين وعلى صفحات الصحف وشاشات التلفاز‚ بما يشي بأن الأزمة ليست وشيكة الرسو على شواطئ التهدئة والتصالح ‚‚ تدخلت أطراف كثيرة‚ وتداخلت مصالح عديدة‚ وتقاطعت سياسات‚ لكن الأمر فيما نعتقد يتطلب تدخل طرف قوي من أهل الحي‚ يملك الرغبة والقدرة على تخفيف حدة توتر الأزمة المتصاعدة‚ وبالتالي يملك أدوات التأثير على طرفيها الرئيسيين‚ بعيدا بقدر الامكان عن ضغوط القوى الأجنبية أو حتى مراوغة لها.

ندعي ان مصر تحديدا قد تكون هي الطرف العربي القادر في هذه اللحظة على التدخل‚ خصوصا وانها تتمتع بعلاقات وثيقة مع الطرفين المتنازعين‚ سوريا ولبنان‚ وليس لها خلفية من الخلاف او الصراع مع اي منهما‚ ولا تسعى لاغتصاب دور احد او التحيز لهذا على حساب ذاك ‚‚ نلمح جهودا مصرية تجري في مسالك هادئة من العمل الدبلوماسي والاتصال المباشر بدمشق وبيروت‚ وبعواصم فاعلة اخرى تستكشف طريقا للخروج بعمل تمهيدي‚ لإيقاف التدهور والتوقف خصوصا عن الحرب الاعلامية والكلامية المشتعلة‚ على أمل الانتقال الى مرحلة لاحقة توضع فيها عناصر الازمة الثنائية على مائدة مشبعة بالمكاشفة والمصارحة كما قال لي دبلوماسي مطلع.

قلنا حسنا ولكن لنجاح الدبلوماسية المصرية الهادئة شروطا اساسية‚ اهمها ان يكون تدخلها وهو المقبول نظريا من الطرفين‚ أكثر جرأة وأشد هجوما وأعمق مواجهة‚ ليس بهدف ردع أحد‚ ولكن على الأقل بهدف المواجهة القوية لأسباب الأزمة‚ وتفكيك عناصر احتقانها‚ ثم تقديم مقترحات حلها ‚‚ على أمل!

ولا يهم هنا كثيرا التردد أمام من يدعي ان التدخل المصري هدفه استعادة الدور المفقود والمكانة المؤثرة في منطقة حيوية‚ كانت مصر قد تخلت عنها برغبتها او رغما عن ارادتها خلال العقود الأخيرة‚

كما أنه لا يهم أيضا زرع اليأس والاحباط مقدما‚ بحجة ان اللاعب الرئيسي وهو اميركا‚ لن يسمح لمصر او غيرها بأن تلعب في هذا الملعب بعيدا عن شروطه وضوابطه‚ ذلك ان الاستسلام المطلق لمثل هذه الحجة هو إعلان صريح بالوفاة والزوال!

ولكن احد شروط نجاح مثل هذا الدور المصري سواء تم مباشرة او تم عبر الجامعة العربية وبتنسيق قوي مع الدول العربية الفاعلة ان تراعي مصر الحساسيات السورية تحديدا من اللعب فيما تعتقد انه مجالها الحيوي في لبنان‚ وان تراعي ايضا الدوافع الاميركية والفرنسية الشرسة الهادفة الى استقطاع لبنان من اطارها الطبيعي وجوارها الجغرافي وامتزاجها البشري عبر الحدود‚ وان تراعي كذلك الاحساس اللبناني بالانحياز المصري لدمشق.

ربما لا يكتب النجاح الكامل للدور المصري في تصفية غبار الازمة السورية - اللبنانية‚ اما لقصور ذاتي في الرغبة والقدرة‚ وإما لرفضه اساسا من احد الطرفين المختلفين‚ وإما‚ وهذا هو الأرجح لضغوط اميركية وأوروبية‚ لا تريد لمصر او اي طرف عربي‚ لعب دور توفيقي في هذه الازمة لأنها في الأصل والأساس تريد مزيدا من اشعال الأزمة وتصعيدها لهدف لم يعد خافيا او مكتوما!

لكن ان تقعد دولة مركزية ومهمة مثل مصر عاجزة عن التدخل بقوة في أزمة طاحنة بين الشقيقين السوري واللبناني‚ وصلت الي مزالق الاطاحة بهما معا او على الأقل بأحدهما‚ انما يمثل خطيئة استراتيجية لن يغفرها التاريخ لمصر صاحبة الدور والمكان والمكانة في التاريخ والجغرافيا العربية‚ حتى لو هاج وماج التيار غير العروبي المعادي للقومية المنكر للمصالح الاستراتيجية‚ الذي يتنامى في مصر لأسباب محلية عنصرية‚ او تحت إغواء الدعاوى الأميركية والامنيات الاسرائيلية.

نعرف اذن ان الازمة السورية - اللبنانية الراهنة وليدة تراكمات كثيرة وأخطاء متبادلة نشأت في الأصل عن اقتناع سياسي سوري بأن لبنان جزء من سوريا الكبرى‚ انتزعه الاستعمار الاوروبي وفق اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة ومنحه استقلالا لكنه يظل في العقيدة السورية جزءا من سوريا الام يقابله على النقيض اقتناع لبناني «بين أغلب اللبنانيين» أن بلدهم دولة مستقلة ذات سيادة نالت استقلالها في نفس العام وبذات الشروط التي نالت بها سوريا استقلالها‚ لكن «روح الهيمنة» ما زالت تحرك السياسة السورية فتدفع الى الصدام‚ والدليل ان دمشق ما زالت ترفض ترسيم الحدود بين البلدين‚وترفض تبادل السفراء والتعامل بتوازن العلاقات كقاعدة سارية في العالم!

نعرف ذلك كله وأكثر وندرك طبيعة المخاوف السورية من ان يذهب لبنان بعيدا ليصبح ممرا او مقرا ضدها وخنجرا في خاصرتها‚ خصوصا مع و جود الوحش الاسرائيلي على حدود البلدين‚ وندرك ايضا الحق اللبناني المشروع في التمتع بالاستقلال والسيادة ونموذج الحكم «الديمقراطي»‚ وطبيعة الحساسية اللبنانية من النفوذ السوري‚ خصوصا بعد أكثر من ربع قرن من الوجود العسكري السوري بما صاحبه من نفوذ سياسي واقتصادي في لبنان ترك جراحا كثيرة.

لكننا ندرك اكثر ان عوامل إثارة مزيد من الحساسية وإذكاء الازمة وإشعال نيران الخلاف والكراهية والثأر! تكمن بشكل اعمق وأوضح في دخول اسرائيل على الخط وبوحشية ظاهرة‚ ليس فقط بهدف ردع سوريا وتحجيم دورها ونفوذها‚ ولكن ايضا بسبب الاطماع الصهيونية القديمة والجديدة‚ في جنوب لبنان ومزارعه ومياهه‚ الأمر الذي يستدعي ضرورة تفكيك العلاقة المميزة بين سوريا ولبنان كمبدأ بإضعافهما معا.

وبقدر وضوح الهدف الاستراتيجي الاسرائيلي في هذا المجال‚ بقدر افتضاح الدور الأميركي - الفرنسي خصوصا‚ ذلك الذي يعتبر سوريا دولة مارقة من دول محور الشر‚ تفرض «استعمارها» على لبنان‚ والذي يعتبر لبنان دولة مختلفة عن اطارها الجغرافي والبشري والسياسي‚ «تماثل اسرائيل في هذه الصفات» ومن ثم فهو يريد لبنان قاعدة عربية للحضارة الغربية تماثل اسرائيل ايضا في هذه المهمة‚ حتى لو كــره اهلها اللبنانيون وجيرانها العرب!

ولقد أدى الفشل السوري - اللبناني‚ ومن خلفهما العجز العربي التاريخي‚ عن صياغة علاقات اخوية متوازنة بين الدولتين السورية واللبنانية المستقلتين‚ تراعي المصالح الاستراتيجية والأهداف المتبادلة الى نجاح الاختراق الاسرائيلي الغربي للحلقة الضعيفة في المنطقة‚ التي صارت اكثر ضعفا وأشد هزلا في ظل الممارسات الخاطئة والالتهابات المتوترة‚ وصولا لممارسة القتل والاغتيال للسياسيين والصحفيين‚ واستجلابا للجنة التحقيق الدولية المعروفة‚ ولصدور قرارات متتالية من مجلس الأمن مثل القرارين 1559 و1636 الضاغطين على سوريا‚ ناهيك عن القانون الاميركي بمعاقبة سوريا.

والخلاصة ‚‚ ان الازمة السورية اللبنانية أصبحت في موقع تقاطع وبين حصار النيران من كل جانب‚ الأزمة العراقية الملتهبة في ظل الاحتلال الانغلوأميركي شرقا‚ والصراع الاسرائيلي - العربي الفلسطيني المتصاعد يوميا غربا‚ بينما الدور الايراني‚ حليف سوريا الأول والأقوى‚ يناوش من بعيد دفاعا عن مصالحه وحماية لأمنه في المواجهة العنيفة مع الغرب‚ بسبب مشروعه النووي اما الدور العربي فهو على ما هو من وجل وعجز وتراجع عن كل المصالح والعلاقات والثوابت‚ تاركا الشقيقين يتناطحان بقسوة في حلبة المصالح الدولية المختلفة.

وفي حين يدفع البعض في لبنان وخارجه‚ لتدويل الأزمة‚ بحجة استخلاص لبنان من القبضة السورية المهيمنة‚ فإن الأخطر هو طرح المعادلة الأسوأ القاتلة‚ إما لبنان وإما سوريا.

إما الإطاحة بالرأس السوري الآن وفورا‚ وإما بقاء لبنان مرتعا للفوضى والعنف ومنبعا للإرهاب الآتي! وهي معادلة ان كانت الأسوأ نظريا فهي الأخطر عمليا‚ الاكثر استجابة للاتهام الشيطاني الصهيوني‚ المتلهف ليس فقط على قصف الرأس السوري‚ ولكن ايضا على كسر سلاح المقاومة الوطنية اللبنانية‚ التي سبق ان كسرت انفه وأجبرته على الانسحاب من جنوب لبنان مدحورا مقهورا.

ولا شك ان القراءة الصحيحة لأسباب ومظاهر وتجليات الأزمة السورية - اللبنانية المحتقنة بعنف‚ تدلنا على ان القصة كلها ليست محصورة في مظاهر الهيمنة السورية‚ ولا في عمليات الاغتيال المدانة‚ من رفيق الحريري الى جبران تويني‚ ولا في الخلافات على ترسيم الحدود وتبادل السفراء فقط‚ ولكنها تدلنا ايضا على أن هناك ما هو أعمق وأشرس‚ ونعني الأطماع الاسرائيلية وعودة النفوذ الاستعماري الأميركي - الأوروبي‚ وكلاهما لا يريد سوريا قوية ولا لبنان كذلك‚ ولكن يريدهما حجرين صغيرين‚ يدوران في الفلك الأوسع‚ فلك الشرق أوسطية الجديدة.

وما يجري في العراق وفلسطين والخليج ووادي النيل من مصر شمالا الى السودان جنوبا‚ ليس بعيدا عن ذلك‚ بل هو صلبه وأساسه رغم صرخات الصارخين بلا فعل او حتى صدى‚ فالتواصل والتكامل بين جوبا السودانية جنوبا‚ ودهوك العراقية شمالا‚ قائم في طبيعة الأزمة وتجلياتها المريبة‚ وفي أهداف إشعالها على الدوام‚ وليست الأزمة السورية - اللبنانية سوى حلقة من هذه الحلقات الملتهبة‚ تجري مع غيرها الى منحدر سحيق ما لم...

نقول ما لم يدركها عمل عربي شجاع يقتحم النيران المشتعلة‚ مسلحا برغبة قوية وقدرة ذاتية‚ يستطيع ان يضع نقطة على السطر‚‚‚

من هذا المنطلق «المتفائل» قلنا ان مصر مؤهلة للعب هذا الدور الذي أتاها الآن‚ ان هي همّت وأمّت ونفخت في الصور‚ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ..لعل وعسى!!

}} خير الكلام: يقول أبو العلاء المعري:

مَلَّ المقامُ فكم أعاشرُ أمةً

أمرتْ بغيرِ صلاحها أمراءها