السفير/ راتب شعبو

رغم ما يتميّز به مفهوم الوطنية من بعد معنوي أو نفسي ما وراء نظري، وهو بعد يستقي نسغه من الحساسية الأزلية المعقدة للعلاقة بين الذات والآخر، فإنه يمكن مقاربة هذا المفهوم نظرياً عبر السعي إلى تلمّس خيوطه الموضوعية التي تمنحه مشروعيته كمفهوم وتلمّس السياق الذي ترعرع فيه. وسنقول سلفاً إن هذا البعد المعنوي الذي يشترك فيه مفهوم الوطنية مع كل المعتقدات التي تقوم بوظيفة خلق الانتماءات ورعايتها، يعتقل اليوم قدراً غير قليل من طاقات القوى المعارضة للأنظمة ولاسيما في منطقتنا. فكما تحتكر الدولة العنف المشروع كذلك تحتكر العلاقة مع الخارج (الآخر) وتجسّد (ذات) الأمة في وجه هذا الآخر في الوعي العام، وتحوز بالتالي على البعد المعنوي لمفهوم الوطنية الذي ذكرناه للتوّ. ولا أحد مثلنا يعرف كيف تلتهم <<الوطنية>> الحقوق وتسوّغ الانتهاكات الفظيعة والإفقار وتجعل من الديموقراطية مؤامرة ومن النقد خيانة وما إلى ذلك.

ربما يجوز الحديث عن مفهوم قديم وآخر حديث للوطنية، القديم القائم على التحرير السياسي (نضال ضد قوات احتلال)، والحديث القائم على التحرير الاقتصادي (نضال ضد يد السوق الخفيّة). رغم أن سياق العولمة الرأسمالية يعيد اليوم إحياء المفهوم القديم كما نشهد في العراق وأفغانستان. واللبّ من المفهومين هو استعادة السيطرة على تاريخ البلد.
يشهد العالم، بفعل آليات التوسع الدائم لعلاقات الإنتاج الرأسمالية، أي بفعل القوانين التي تحكم تجدّد علاقات الإنتاج الرأسمالية نفسها، نزوعين متعارضين هما: النزوع نحو حت واضمحلال سيادة الدول وتكريس قوانين عالمية لها الغلبة على القوانين <<الوطنية>>، قوانين فوق الدول لها مؤسساتها العالمية؛ والنزوع المقابل إلى تكريس الحدود السياسية وحتى الإمعان في التجزيء السياسي في المناطق الواقعة خارج مراكز رأسالمال العالمي. فنحن نشهد حركة تعولم (توحيد) وحركة تجزؤ (تفتيت) في الوقت نفسه، أو لنقل حركة تعولم تولد وتستدعي حركة تجزؤ. وهذه الحركة المركبة تعكس في الواقع التناقض الذي يسكن علاقة الإنتاج الرأسمالية في طورها العالمي الحالي، التناقض بين التركز الشديد لرأسالمال من جهة والانبساط الشديد لعملية الإنتاج من جهة أخرى.

إن إشكالية مفهوم الوطنية تنشأ في الشطر المهمّش الذي يعيش مشكلة استلاب اقتصادي، بمعنى فقدانه السيطرة على اقتصاده ومقدراته (على تاريخه) بفعل ارتهانه إلى شبكة العلاقات الاقتصادية العالمية من موقع تابع دون وجود أفق للتحرر من هذا الاستلاب، ولاسيما بعد انهيار التجربة السوفييتية ومشتقاتها التي كانت تشكل فيما مضى سنداً للاستقلال عن السوق العالمية أو لوهم الاستقلال عنها وهذا الاستلاب يغذّي نزوعاً سياسياً استقلالياً <<وطنياً>> معاقاً لم ينجز له برنامج سياسي اقتصادي إلى اليوم وقد لا ينجز، وقد يكون طرح المشكلة على هذا النحو خاطئاً في الأصل. أما في الشطر المسيطر من العالم الرأسمالي فيقتصر مفهوم الوطنية على الدفاع عن الوطن على غرار قانون (patriot act) في أميركا مثلاً، أي المشكلة ثمة مغايرة جملةً.

تنبع الإشكالية من أن بلداننا، لأسباب تاريخية، انخرطت في السوق الرأسمالية من موقع ضعيف وتابع بآليات تعيد إنتاج هذا الضعف والتبعية، وباتت الدولة في هذه البلدان هي الشكل السياسي المعبّر عن هذه التبعية، تحميها وتجدّدها وتجد في ذلك وظيفتها، أي باتت الدولة في هذه الحال تنتمي من حيث الوظيفة إلى الخارج المسيطر أكثر مما تنتمي إلى الداخل <<الوطني>>. ولا غرو أن بعض الحركات الثورية اعتبرت السلطات المستبدة في بلدانها استعماراً يجب تحرير البلاد منه (ثورة الساندينيين في نيكاراغوا مثلاً). وبين إدراك هذا الواقع (التبعية والتهميش) والعجز عن إدراك المخرج السياسي الاقتصادي منه يعيش مفهوم الوطنية مأزقه الذي هو مأزق المعارضة الوطنية عينه.

إن طاقة الرفض التي يولّدها هذا الواقع، وبسبب غياب النهج الاقتصادي التحرري وانغلاق أفق الحل، تتصعّد إذا استعرنا المفهوم الفرويدي في المستوى السياسي على شكل نزعة ليبرالية/ديموقراطية تتماشى مع الوضع العالمي الجديد أحادي القطب، أو على شكل حركات سياسية إسلامية شعبوية لا توجد الوطنية في منظومتها المفهومية أصلاً، وهي أشكال تهرب من وجه المشكلة، بآلية غير مدركة غالباً. فنشهد اليوم بالتالي حركات سياسية غير متمفصلة على مشكلتها الحقيقية، تعاني من انزياح في الوعي يعطّل آلية الحوار ويعطل آلية إحداث تغيير مهم على مستوى الواقع الاقتصادي.
وبديهي أن الرفض الذي يتجلى على شكل من هذه الأشكال لا يعي ذاته إلا كذلك، أي لا يعي أنه رفض مصعّد يبحث عن حل خارج إطار المشكلة، وأنه يهرب بشكل غير موعى من مشكلة مستعصية. في سوريا مثلاً تثير قضية مصافحة الرئيس السوري لنظيره الإسرائيلي من ردود الفعل <<الوطنية>> أكثر مما يثيره القانون رقم عشرة لعام 1991 والذي يعطي الرأسمال الأجنبي نفس امتيازات الرأسمال السوري والعربي. وهذا تعبير عن الفشل في مواجهة ما يفترض أنه قانون ينخر السيادة الوطنية ولكن لا يمكن الوقوف في وجهه لأنه ضروري لإنعاش اقتصاد راكد، وتفريغ طاقة الإحباط هذه، بدلاً من ذلك، على حركة رمزية لا تبلغ أهميتها وخطورتها لدى التحليل جزءاً يسيراً من أهمية وخطورة القانون المذكور وتعديلاته.

يوصلنا هذا إلى خصوصية موضوع الوطنية في سوريا نظراً إلى تزامن أو تعايش المشكلة الوطنية القديمة والحديثة لدينا، فهناك أرض سورية محتلة (الجولان) وتعتبر الدولة السورية هي الممثل الشرعي (الدولي) لها وصاحبة الحق في العمل على استعادتها. وهذا ما يجعل الدولة، في غياب أي جهة غير رسمية تتولى قضية الجولان، تستولي على مشروعية حركة تحرر وطني، بمعناه القديم، وهي الدولة التي بحكم موقعها في الشطر التابع والمهمّش من العالم الرأسمالي تشكل التعبير السياسي عن علاقات اقتصادية متسقة مع السوق الرأسمالية العالمية، وجزءاً مكوّناً مما يمكن اعتباره دولة عالمية تقوم على إعادة إنتاج الواقع الاقتصادي العالمي وحمايته. وهذا الموقع المزدوج يعطي الدولة السورية قدرة على المناورة في الداخل والخارج.

أخيراً وبالمناسبة، إن من اللافت ضعف حضور قضية الجولان في السياسة السورية سواء الرسمية أو الشعبية، قياساً بما ينتظر أن تمثله قضية كهذه على مستوى البلد الأم. وهذا ينسحب على المعارضة كما على النظام ويحتاج إلى نظر لأنه بالفعل يطرح سؤالاً يحرّض على التفكير.