السفير / جوزف سماحة

مرّ القانون بهدوء. القانون الذي يحض فرنسا على حسن معاملة المستوطنين الذين انسحبوا مع جيوشها عندما غادرت أو اضطرت إلى مغادرة المستعمرات. كان ذلك من عشرة أشهر ذات 23 شباط. لم يتوقف الكثيرون عند التعديل الطارئ على المادة الرابعة والداعي إلى أن تعترف الكتب المدرسية <<بشكل خاص بالدور الإيجابي للوجود الفرنسي وراء البحار>>. أي، بكلام آخر، إلى الاعتراف بإيجابيات الاستعمار وفي شمالي أفريقيا بشكل خاص.

أمكن كبت رد الفعل. فالقانون صاغه وعدله نواب من اليمين الحاكم من الذين يشكل <<الأقدام السوداء>> و<<الحركيون>> نسبة <<محترمة>> من ناخبيهم. وأيّده نواب الحزب الاشتراكي وانفرد الشيوعيون بالتصويت ضده. خرق الكبت مؤرخون نشروا عريضة تقول إنه ليس من حق المشترعين كتابة التاريخ وإن أحداً لا يصوغ الذاكرة بقانون. ثم رد عليهم زملاء لهم معترضين على المطالبة بإلغاء القوانين التي تتدخل في ما لا يعنيها، أي، في هذا المجال، بوضع أطر التأريخ.

إن في مرور القانون، وفي عدد مؤيديه، وفي الصمت عنه، ما يقلق. وهناك ما يقلق أكثر في اندفاعة بعض النواب، في جلسة شهيرة، إلى استحضار ماضيهم الكولونيالي والتفجع على التضحيات التي قدموها، وفي إدانة الإرهاب الذي تعرضت له القوات الغازية والمتعاونون المحليون معها. لقد بدا ذلك النقاش <<التاريخي>> نقاشاً في اللحظة الراهنة. فها نحن نشهد محاولة للعودة إلى رفع ألوية <<المهمة التمدينية>> للاستعمار ناشر التقدم والحضارة والديموقراطية. وها نحن نشهد التركيز على <<عبء الرجل الأبيض>> الآخذ على عاتقه نقل البدائيين إلى الحضارة. وها نحن نعيش زمن <<الرسالة الأميركية الخالدة>>. وها هي المقاومة، كل مقاومة، من فلسطين إلى العراق، تصبح عملاً إرهابياً، متخلفا، لا يدافع عن البلاد وأهلها وثرواتها وحقها، وانما يعادي فكرة الحرية.

ثم كان ما كان في فرنسا من هبة الضواحي. هبة المتحدرين من اصول اختبرت الاستعمار في بلادها ودفعتها اسباب كثيرة إلى تجديد الاختبار في المتروبول على شكل تمييز حاد. وعندما عامل نيكولا ساركوزي الشبان بصفتهم <<حثالة>> وبصفتهم <<رعاعاً>>، داعيا إلى استخدام المبيدات ضدهم، لم يكن يغرف من مفردات الخطاب الكولونيالي فحسب، وانما، ايضا، كان يدرك انه يخاطب مزاجاً صاعداً.

تردد الكثيرون في تقديم التغطية الفكرية لساركوزي. إلا ان بين الذين تولوا ذلك احد ابرز <<الفلاسفة الجدد>> الين فنكلكروت. والرجل مثقف يهودي كان ذات مرة يساريا الى ان اخذه دفاعه
الاعمى عن السياسات الاسرائيلية، وعن اليمين الصهيوني، وعن ارييل شارون، الى مواقع اخرى. لقد بات يرى في النقد الديموقراطي الإنساني لسياسات عنصرية اسرائيلية المظهر الجديد من مظاهر اللاسامية.

شرح فنكلكروت ل<<هآرتس>> نظريته حول عنف الضواحي. وخلاصتها ان المنتفضين لا ينتفضون لانهم مضطهدون او مهمشون بل لانهم مسلمون وسود. وهم اذ يفعلون ما يفعلون فلأنهم يعادون الغرب والحضارة المسيحية اليهودية، ولذا فمن الافضل ترحيلهم. ولم يكن سرا انه يشمل في هذا التحليل الفلسطينيين تحت الاحتلال وكل معارض او مقاوم للاحتلال الاميركي للعراق. ان ما دعا إليه <<الفيلسوف الجديد>> هو، باختصار، <<صهينة الوعي العالمي>>.

لقد تعرضت هذه الاطروحات لحملة انتقادات طبعا. ولكن، بما ان الوقاحة لا قعر لها، فقد وجدنا من يعتبر الانتقادات، بدورها، مظهرا من مظاهر اللاسامية!
لم تكد قضية فنكلكروت تتراجع حتى عادت الى الساحة قضية <<تمجيد الاستعمار>> وواجب تدريس ذلك. لقد استشعر الاشتراكيون وبعض نواب الوسط خطأ ما اقدموا عليه. وتلقى ساركوزي صفعة حين ابلغ إليه فرنسيو جزر الانتيل (وهم عبيد سابقون جيء بهم من افريقيا) انه غير مرحب به لديهم. وتدخل جاك شيراك، في يقظة ديغولية قلما تصيبه، من اجل ان ينفي عن القانون صفة المؤرخ ومن اجل ان يكلف لجنة تبحث الامر من اساسه.

إلا ان ساركوزي عاد ليضرب من جديد. لقد قادته آراؤه الرافضة لاستمرار فرنسا في اظهار <<الندم>>، وقادته منافسته مع شيراك، الى تكليف المحامي ارنو كلار سفيلد ترؤس لجنة تبحث في <<القانون والتاريخ وواجب الذاكرة>>، وبمجرد معرفة الخبر عاد السجال ليتجدد متناولا، هذه المرة، شخصية المحامي المشار إليه.
ابن ابن لسيرج كلار سفيلد <<صائد النازيين>> المعروف. لكن المشكلة ليست هنا اطلاقا، اي ليست في ضرورة محاكمة فرنسيين واوروبيين اضطهدوا، حتى الابادة، مواطنيهم. هذه ضرورة. ان المشكلة هي في ان كلار سفيلد الشاب لا يرى فرقا كبيرا بين الماني نازي او فرنسي متعاون، لعنصريته، مع الاحتلال الالماني، وبين فلسطيني يقاتل فوق ارضه. الاثنان، في رأيه، يلتقيان عند كراهية من النوع نفسه ل<<اليهودي>>.

ارنو كلار سفيلد نجم بالمعنى الاستهلاكي المبتذل وهو حاضر بقوة، فوق المسرح الفرنسي والاوروبي والاميركي، في كل المعارك التي يخوضها عتاة اليمين الصهيوني. وهو يفاخر بذلك معتبرا انه يثأر لاجداد قضوا في المحرقة، يرفض كلار سفيلد حق العودة للفلسطينيين الى ارضهم معتبرا انه المسؤول عن افشال التسوية، ويهاجم العرب الذين لم يدمجوا <<اخوتهم>>. يتبنى الرواية الصهيونية التحريضية لتاريخ الصراع، ويعيد التذكير بالدور الفرنسي في المساعدة لاقامة <<وطن يهودي>> في فلسطين. يحمّل العرب جزءا من مسؤولية المحرقة لانهم ضغطوا لاقفال ابواب فلسطين امام الهجرة اليهودية.

لقد واكب كلار سفيلد نظريات <<المحافظين الجدد>> وناتان شارانسكي القائلة ان الديكتاتوريات العربية، ومنها ديكتاتورية ياسر عرفات، تستخدم كراهية اسرائيل لتستمر. ودافع، مبكرا، عن جدار الفصل وضم المستوطنات. رأى في العنف الفلسطيني مشروع ابادة وفي العنف الانتقائي الاسرائيلي مشروع دفاع عن النفس. كتب داعيا الى الحرب الاهلية الفلسطينية متسائلا عن جدوى اقامة دولة فلسطينية في ظل وجود الاردن، ثم عاد الى تعديل موقفه بعد <<التطور>> في موقف شارون.

ليس كلار سفيلد من النوع الذي يكتفي بالكلام. لقد سعى الى اكتساب الجنسية الاسرائيلية وحصل عليها. وتوجه، في عز الانتفاضة، للخدمة في جيش الاحتلال في اطار <<حرس الحدود>> وروى تجربته في مواجهة الفلسطينيين مفاخراً بأنه كان احد افضل <<قناصة>> الكتيبة.

أمثل هذا الرجل هو الاختيار النموذجي للكتابة عن الاستعمار، وتاريخه، وذاكرة الشعوب في التعاطي معه؟ يبدو الامر كذلك في عرف رئيس حزب الاكثرية الحاكمة في فرنسا، والرجل الذي لم تهتز شعبيته بعد ما جرى في الضواحي. والاستنتاج من ذلك ان فرنسا قد لا تكون تماما بمنأى عن اعادة الاعتبار لافكار وقيم كان يبدو ان الإنسانية تجاوزتها. ان اجواء من هذا النوع تقود من البحث في الحضور الايجابي للاستعمار الفرنسي تاريخيا في شمال افريقيا الى التسامح مع عودة شبه وصائية لفرنسا الى المشرق العربي.

في 5 آذار 2003 تقدم نائبان فرنسيان باقتراح مشروع قانون من مادة وحيدة يطالب <<بالاعتراف العام بالعمل الايجابي لمجموع مواطنينا الذين عاشوا في الجزائر اثناء التواجد الفرنسي>>. أحد هذين النائبين فيليب دوست بلازي وزير الخارجية الحالي!