الخليج / ميشيل كيلو

احتجت الولايات المتحدة على انتخاب ايفو موراليس مرشح اليسار البوليفي، رئيسا جديدا لجمهوريتها. واحتجت، ومعها أوروبا هذه المرة، على مشاركة منظمة حماس في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في الخامس والعشرين من الشهر القادم، وأعلنت هي وأوروبا أنهما ستوقفان عونهما المالي والسياسي، إذا فازت حماس في الانتخابات وشكلت أغلبية المجلس التشريعي الفلسطيني.

يؤكد هذان الاحتجاجان ما سبق للديمقراطيين العرب أن أكدوه دوما، وهو أن أمريكا تعتبر الديمقراطية ورقة سياسية وترفض أن ترى فيها خيارا تاريخيا وإنسانيا، وأنها تقبل بها عندما تخدم مصالحها، وترفضها حين تخدم مصالح الشعوب الفقيرة والمضطهدة، التي تعتبرها وسيلتها إلى تغيير أوضاعها، بالتخلص من نظم بلدانها الفاسدة أو من سيطرة وهيمنة أمريكا على أقدارها ومصيرها.

كان موقف أمريكا من الديمقراطية في فلسطين متوقعا، فهي تكذب عندما تعلن إيمانها بالديمقراطية، وتصدق عندما ترفض أن تكسب حماس انتخابات ديمقراطية، لأن نجاحها يعزز خطا سياسيا/ عسكريا يرفض احتلال فلسطين، ويؤمن بالصراع المسلح سبيلا إلى تحريرها منه، ويعني وصوله إلى السلطة تعاظم مأزق السياسة الأمريكية في عموم المنطقة العربية، بينما جيش الاحتلال غارق في وحل العراق، والداخل الأمريكي يغلي بالغضب بسبب كثرة قتلى الحرب، واقتناع قطاعات كبيرة من الشعب أن أبناءها اقتيدوا بالكذب والخديعة إلى موت لا مبرر له، والنظم العربية تهتز تحت وطأة تطورات تشي بقدوم عهد عربي جديد، يبدأ هنا بالمطالبة بالإصلاح، وهناك بتغيير يعني تحقيقه سقوط الأمر القائم.

لكن موقف أوروبا لم يكن متوقعا بالقدر نفسه، ليس فقط لأن سلوكها تجاه المنظمات الإسلامية يختلف عن سلوك أمريكا، بل كذلك لأن الاحتلال “الإسرائيلي” لأراضي الدولة الفلسطينية تسبب في قيام بؤرة نزاع تاريخي خطيرة على الجانب الآخر من المتوسط، تهدد أمنها ورخاءها، ولها مصلحة في وضع حد لها، بغض النظر عن الجهة التي تمسك بالسلطة في فلسطين، ما دامت تقبل الحلول المرحلية وتعمل من أجل إنهاء الاحتلال وإقامة دولة مستقلة سيسهم قيامها في استتباب السلام وتنمية المنطقة.

لم يكن موقف أوروبا من حماس متوقعا، بسبب اختلاف فهمها للديمقراطية عن الفهم الأمريكي، واختلاف خططها تجاه الإرهاب في هذه النقطة أو تلك عن خطط واشنطن، ولأن علاقاتها مع العالم العربي ليست مماثلة للعلاقات الأمريكية معه، وأخيرا، لأن لديها خبرات تاريخية مختلفة في التعامل مع الآخر والمختلف بوجه عام.

رغم هذا كله، اتخذت أوروبا من حماس موقفا يشبه الموقف الأمريكي، وهددت بقطع المعونات عن فلسطين في حال نجح ممثلو الإسلام السياسي في السيطرة على المجلس التشريعي، بعد أن اكتسحوا المجالس البلدية في أكبر مدن الضفة الغربية، حيث ساد اعتقاد بأنهم ليسوا قادرين على زحزحة فتح عن مكانتها الراسخة هناك.

هل لهذا الموقف الأوروبي طابع تكتيكي يستهدف الضغط على المواطن الفلسطيني كي لا يعطي صوته لممثلي حماس؟ ربما كان في الأمر شيء من هذا. لكن أوروبا ستنفذ تهديدها، على الأرجح، في حال فازت حماس في انتخابات المجلس التشريعي، وصار بوسعها تشكيل حكومة تمسك بالقرار الوطني الفلسطيني، وتطبق استراتيجية المنظمة الإسلامية، التي ستنفذ، لأول مرة في تاريخ الصراع “الإسرائيلي” ضد فلسطين والعرب، سياسات تختلف عن كل ما سبق للعدو “الإسرائيلي” أن واجهه خلال قرن من الصراع الدامي، توسطه ضياع فلسطين ويشهد اليوم احتمال ضياع بلدان عربية أخرى!

بكلام آخر: إن موقف أوروبا ليس كلاميا فقط، بل هو موقف جدي، ما دام نجاح حماس سيقلب معادلات محلية وإقليمية ودولية، وسيؤذن ببدء حقبة جديدة في تاريخ المنطقة، سمتها الرئيسة صعود الإسلام السياسي إلى الحكم في فلسطين، البلد، الذي كان هدف ومركز السياسات العربية والإقليمية والدولية خلال نيف وقرن، بعد الفشل العام، الذي لحق بمدارس الفكر والعمل العام الحديثة، التي حكمت المنطقة باسم القومية والليبرالية والاشتراكية، وما بينها من خلائط وتنويعات.

يفضح موقف أمريكا -وبقدر أقل أوروبا- من حق الشعب الفلسطيني في اختيار ممثليه حقيقة موقفها من الديمقراطية، ويبين أنها ستقاوم تطبيقها في المنطقة العربية، إن تعارضت مع مصالحها أو أوصلت خصومها إلى السلطة والقرار. ويؤكد موقفها ما قاله ديمقراطيو العرب دوما، وهو أن النظام الديمقراطي لن يأتي على يديها، ولن يقوم برضاها، لأنه سيقلب أوضاعها في بلداننا رأسا على عقب، بما أن للديمقراطية هدفاً رئيسياً عندنا هو رفع يدها عن منطقتنا وثرواتنا وحريتنا.

ليست أمريكا مع الديمقراطية كخيار عربي. إنها مع ديمقراطية انتقائية/ كيفية لا تمت إلى الديمقراطية وما يريده الديمقراطيون العرب بصلة. وليس موقفها من حماس غير تأكيد جديد لهذه الحقيقة، التي يجب أن تفضي إلى وضع حد لاتهام الديمقراطية العربية بأنها أمريكية من جهة، ولدفاع البعض عن نظم الاستبداد العربية القائمة من جهة أخرى، خاصة وأن هذه النظم جاءت بقرار أمريكي أيضا وتحالفت مع أمريكا طيلة قرابة ربع قرن: ضد الديمقراطية قبل كل شيء.