الدستور / د. محمد علي الفرا

يبدو أن الحملة على الإسلام والمسلمين في الغرب لن تتوقف، وكلما خفّت حدتها، وخمدت نيرانها أشعلها كتاب ومفكرون يستغلون أحداثاً تقع في بلدانهم، وينسبونها إلى إسلاميين، حتى ولو كانت هناك أطراف غير إسلامية قامت بها، أو اشتركت فيها، أو أنها لا علاقة لها بالاسلام، مثل الاضطرابات التي حدثت قبل نحو شهرين في فرنسا.
وقد استغل ’’فرانسيس فوكوياما’’ - وهو أمريكي من أصل ياباني ومؤلف الكتاب المثير للجدل ’’نهاية التاريخ’’- هذه الاضطرابات، وألقى محاضرة في المنظمة القومية للديموقراطية، وكتبت عنها صحيفة ’’واشنطن بوست’’ تحليلاً وافياً ظهر في تقرير واشنطن الشهر الماضي. حاول ’’فوكوياما’’ في هذه المحاضرة استكمال فكرته إعادة صياغة التاريخ التي شرحها بإسهاب في كتابه سابق الذكر، والذي خلص فيه إلى أن الديموقراطية الليبرالية بإمكانها أن تشكل فعلاً ’’منتهى التطور الايديولوجي للإنسانية، والشكل النهائي لأي حكم إنساني’’. وهو يعتقد أن الإسلام هزم الديموقراطية الليبرالية في اجزاء متعددة من العالم الإسلامي، وهو يشكل تهديداً كبيراً للممارسات الليبرالية، حتى في البلدان التي لم يستطع إستلام السلطة فيها مباشرة. وأن الإسلام صار بعد انتهاء الحرب الباردة في أوروبا يشكل تهديداً للغرب. يركز ’’فوكوياما’’ في محاضرته الأخيرة التي نحن بصددها على ما أسماه ’’خطر المسلمين في أوروبا’’، ومشكلة الإرهاب المتأسلم والتي يعتقد أنها ليست قائمة في الشرق الأوسط. ولكنها مشكلة موجودة في أوروبا التي هي قلب العالم الغربي المتسم بالحرية والديموقراطية، وهو نفس المجتمع الغربي الذي جعل هؤلاء الشباب يناصبونه العداء.

وقد استدل ’’فوكوياما’’ على ذلك بهجمات لندن في الصيف الماضي، وأحداث هولندا، السنة الماضية، والتي قام فيها شاب مسلم -هولندي المولد- بقتل مخرج هولندي بصورة وحشية -كما قال- ولكنه لم يذكر السبب الذي دفع هذا المسلم لقتل المخرج الذي أساء للإسلام وللمسلمين، وتساءل ’’فوكوياما’’ باستغراب واستهجان قائلاً:’’ إذا اعتبرنا أن المجتمع الغربي تأسس على أسس وقيم سامية مثل التسامح والانفتاح والديموقراطية، فكيف يتجاوب ويتعايش مع أناس يعيشون داخله ولكنهم يفتقدون هذه القيم؟’’. وهذا ولا شك اتهام ظالم وتحامل على المسلمين وتحريض على كراهيتهم، وجهل أو نكران للقيم الإسلامية السامية التي تحلى بها الإسلام، فالتسامح والانفتاح على الآخر وقبوله، والاعتراف به، هي من بعض سمات الإسلام وخصائصة. إلاّ أن ’’فوكو ياما’’ حاول تخفيف حدة هجومه على المسلمين في أوروبا، فتبنى أفكار الباحث الأكاديمي ’’أوليفر روي’’ ٌُّز ْمًّىٌد، واتخذها كنقطة انطلاق بنى عليها أطروحته التي برهن فيها بأن الكثيرين من المسلمين المقيمين في أوروبا، وبخاصة الجيل الثاني منهم، غير قادرين على الإحساس بهويتهم، فالمجتمعات الأوروبية تختلف عن المجتمع الأمريكي الذي ينصهر فيه جميع الأجناس والأعراق في بوتقة وأحده، أمّا المجتمعات الأوروبية، فهي عكس ذلك، لأنها تلفظ الغرباء، وتأبى احتضانهم في عباءة القومية أو في وطنية البلد الذي يحملون جنسية، ولذلك يشعر الشباب المسلم بعدم وجود هوية محددة لهم، وهو أمر نادر الحدوث، إذا عاش هؤلاء الشباب وسط مجتمع إسلامي.

وبسبب هذا الضياع والتخبط -كما قال فوكوياما- يلجأ هؤلاء الفتية إلى الارتماء في أحضان شخص مثل ’’أسامة بن لادن’’ الذي يدعوهم للمشاركة في عالم إسلامي فسيح ورحب وذي طبيعة عسكرية جهادية، ومن هنا يبدأ الخطر، كما قال. إن ’’فوكو ياما’’ بأقواله هذه كمن يضع السم في العسل، ومن السهل تفنيد هذه الأقوال ودحضها، إلاّ أنه ولضيق المقام نكتفي بالقول أن المسلمين ليسوا وحدهم الذين يشعرون بالضياع وفقدان الهوية والانتماء في المجتمعات الأوروبية، وإنما جميع الذين جاءوا خارج القارة الأوروبية، كالافارقة والآسيويين، بدليل أن الذين قاموا بأعمال العنف في فرنسا لم يكونوا كلهم مسلمين.

أمّا الشباب المسلمون الذين زعم ’’فوكوياما’’ بأنهم ارتموا في أحضان ’’بن لادن’’ فذلك زعم ووهم، لأن هؤلاء الشباب الذين لم يقبلهم الغرب ولم يعمل على دمجهم في مجتمعاته، كفروا بقيم الغرب الزائقة حينما تبنى مبدأ ازدواجية المعايير، واستغل الأحداث فشن حملة شعواء على الاسلام والمسلمين، مما أثار حفيظة ونقمة الشباب المسلم الذي اعتقد أنه حورب في عقيدته وتربيته الدينية مما دفعه إلى التطرف والعنف. لقد استهجن البعض حينما عقد ’’فوكوياما’’ في محاضرته مقارنه بين المصلح الديني ’’مارتن لوثر’’ مؤسس المذهب البروتستنتي، و’’أسامة بن لادن’’، وقال أن ’’بن لادن في نظر بعض المسلمين الساخطين، يُعد أحد المصلحين الراديكاليين، وصاحب رؤية جديرة بالإحترام، ويقف شامخاً خارج نطاق التاريخ متصدياً للقوات الأجنبية الغاشمة التي تحاول التقليل من شأن المسلمين’’.

وقال ’’فوكوياما’’ أن المجتمع الأوروبي أعان ’’بن لادن’’ وتبنى قضيته، لكون أوروبا تضع المسلمين تحت السيطرة مع منحهم حرية فاسدة ومهملة تجعلهم يصطلون بنار العزلة، حتى يندفع البعض منهم ويكسر الحواجز التي تفصل بين الخلق المتحضر والسلوك البربري والهمجي.
وقد جاءت اعمال العنف التي اندلعت في عدة مدن فرنسية على أيدي أبناء المهاجرين المسلمين والأفارقة الذين لم يندمجوا في المجتمع الفرنسي بسبب تبني فرنسا لسياسة ’’كلنا فرنسيون’’ بدون توفير فرص عمل أو القيام بعملية دمج حقيقية في المجتمع لتثبت صحة مقولات فوكوياما. وبذلك يريد ’’فوكوياما’’ إعطاء الأوروبيين درساً مفادة: تخلصوا أيها الأوروبيون من التعددية الثقافية، كما أنه لا بد أن يعم التسامح ويشمل الأفراد، وليس المجموعات، مما سوف يؤدي حتماً إلى زيادة التقدير والاحترام للأفراد ومنحهم صلاحيات أكبر، وإن كان ذلك على حساب الترابط الديموقراطي، وفي الوقت نفسه تستطيع أوروبا أن تسعى بشكل أفضل لدمج المجتمع الأوروبي، فشباب المسلمين يحتاجون إلى وظائف هناك ويحتاجون أن تتساوى حقوقهم مع أهل البلاد الأوروبية. ويعلق محرر تقرير واشنطن سابق الذكر على أقوال ’’فوكوياما’’ قائلاً، إنه يبدو واضحاً من هذه الأقوال والتلميحات، وبخاصة مقارنة ’’بن لادن’’ بالمصلح الديني ’’لوثر’’، إنه ينظر إلى المسلمين والمجتمع الإسلامي على أنهم أمة متخلفة منذ الأزل، تخلّفت عن اللحاق بالديموقراطية الليبرالية والتي لها مقدرة فعالة على تحريك مشاعر الإزدراء النابعة من الوطن تجاه الديموقراطية المزعومة والتطرف الديني والرغبات الملحة للسلطة المستبدة، فإن ’’إبن لادن’’ لا يُعد بالمرة نسخة منقحة من ’’لوثر’’، ولكنه ربما يكون رجلاً سابقاً لعصره.

ولا يخفى على أحد أن ’’فوكوياما’’ يبدي إعجابه بالثوار المطالبين بالديموقراطية، ولكنه يرى أن المسلمين الذين يشهرون السلاح في وجه المجتمع الغربي ينتمون إلى سلالة معقدة، وأن الإرهابيين المسلمين في نظره، هم نتاج العصور الغابرة، وهم يشكلون خطراً على الحضارات الحديثة، كما أنهم سبب الخلل الذي يشوش على نظريات وفكر ’’فوكوياما’’ ومحاولة فهم هذا العالم. فوكوياما ليس الكاتب والمفكر الوحيد في الغرب الذي يهاجم الإسلام ويؤلب الأمريكيين والأوروبيين على كره المسلمين ومعاداتهم، فهناك كثير من الكتاب الذين ركبوا موجة الكراهية والبغض للإسلام. وللأسف نجد في البلاد العربية والإسلامية من يردد أقوالهم، ويتبنى طروحاتهم وأفكارهم، ويسير على نهجهم في الهجوم على العروبة والإسلام، وقد سبق أن تعرضنا لهم في مقالات سابقة.