جولة جديدة في أيام العام القادم سيعيشها المجتمع السوري مع إيقاع المحقق الجديد، دون ان يعني تنحي ميلس أي مؤشرات خاصة على الوضع السوري دوليا، فالمسألة تبدو بعيدة عن الحسم طالما أن التشكيل الشرق أوسطي مازال متأرجحا على إيقاع ما يحدث في العراق. فالاختبار الحقيقي ليس مرتبطا بقدرة الإدارة الأمريكية على التعامل مع الأزمة العراقية، بل هو طبيعة الارتجاج التي خلفتها هذه الأزمة، مخرجة من عمق الشرق الأوسط كل التوترات المختزنة، أو انها أشعلت بداية الفشل لما سمي يوما "الحلول الذكية"، وأوجد دولا إقليمية بعد الحرب العالمية الثانية.

وربما وضعت المواجهة مع العراق الإطار الوطني الذي بدأ يتبلور منذ مراحل الانتداب على سورية والعراق ولبنان على محك جديد، لأن المأزق القديم يتجدد اليوم ولكن بمظهر مختلف. فالنضال الوطني بعد الانتداب ظهر على ركام مرحلة قصير حاولت فيه القوى "الوطنية" خلق تمثيل عام للمنطقة، لكن مسألة "الوطنية" كانت تحددها اعتبارات انتهت تماما مع دخول الجيوش الفرنسية والإنكليزية إلى المنطقة، ولم يعد باستطاعة هذه القوى سوى التعامل مع واقع احتلال بلور معه طبيعة جديدة من مفهوم الوطنية، استمر حتى "اكتسح" المد الجماهيري واقع الشرق الأوسط. لكن اختراق المفهوم "الوطني" كما ظهر في مراحل الانتداب كان موجودا ومحاصرا بطبيعة الواقع العام، حيث لم تغب في تلك الفترة محاولات رسم "القومية"، إلا أن التكوين السياسي بقي ضاغطا.

واليوم نستعيد الصور القديمة على إيقاع جديد، فإذا كان صحيحا أن مسألة "الانتداب لم تعد وارد، لكننا في طور تأسيس شكلين سياسيين إن صح التعبير: الأول في العراق، وهو رغم تعثره لكنه يفرض بشكل تدريجي واقعا من الافتراق على حساب "العراق التاريخي". والثاني في فلسطين مع التأسيس الجديد لـ"إسرائيل" وفق سياق أنهى الرمز الطوباوي الذي شكل دافعا لظهور الدولة، وبدأ الحديث عن دولتين.

ورغم التصادم الذي يبدو مطلقا بين تفكير بعض التيارات الفلسطينية ومسألة "الدولة العبرية"، لكن عملية التأسيس قائمة، وهي تقوم بفرز حاد على المستوى الإقليمي، دافعة بالتيار الديني نحو أعلى تمثيل انتخابي شهدناه في مصر وفلسطين، ونراه بطريقة أخرى في العراق.

وإذا كان من حق المجتمع الاختيار بعد تجربة قاسية منذ منتصف القرن الماضي، لكن هذا الاختيار لا يعفينا من رؤية التأسيس الجديد للمنطقة الذي يظهر وكأنه فعل طبيعي، وتبدل لموازين القوى الداخلية، بحيث يبدو أن تغير الجغرافية – السياسية أمر طبيعي. لكن هذا التغير يحاول أيضا دفن الرؤية التي يمكنها مواجهة حالة "التأسيس المطلق" لتتعامل مع هذا المنطق بـ"التأسيس الحيوي" الذي يفهم سياق المنطقة بشكل عام، وليس اجتزاء لصورة ظرفية تطول أو تقصر.

التأسيس الجديد اليوم يسير على عكس ما نتوقع، لأنه يتم على ركام "الحلول الذكية" التي أوصلت الدولة الإقليمية إلى نقطة النهاية القصوى، فأصبح من المستحيل التحرك دون إعادة النظر بطبيعة الدول القائمة، وهو ما تحاول الولايات المتحدة النسج عليه لوضع "شرق أوسط كبير". لكن الدول الإقليمية في نفس الوقت لم تعد مجرد إجراء سياسي، بل نسيج مصالح اجتماعية وذاكرة قريبة، والأهم أنها واقع لدولة وتكوين سياسي. ومن هنا تعاملت الولايات المتحدة مع العراق عبر تفكيك كل بنيان الدولة، لأن الشكل السابق يمكن ان يستمر ويبقى كدولة ومؤسسات.

اليوم سيبقى التأسيس الجديد قائما، لكن المهم عدم اعتبار ما حدث في الماضي حدثا تاريخيا، لأن التفتيت الذي يمكن أن يحدث ليس موجها إلى الدول والأنظمة السياسية بل إلى المجتمع ونسيج التنوع، وهو الخطر الذي نراه أكثر من أي مسألة أخرى.