ضفتا الأطلسي.. أكثر من تطبيع علاقات

“الخليج”
امتازت سنة 2005 بعودة الحرارة إلى العلاقات الأوروبية الأمريكية، التي كادت ان تعصف بها ريح الحرب الأمريكية على العراق، وتجلى ذلك على نحو خاص في فتح صفحة جديدة من التفاهم ما بين باريس وواشنطن، كان اساسها الملف اللبناني الذي تمكن من تضييق الفجوة السياسية، التي قامت بين العاصمتين بسبب الأزمة العراقية وتداعياتها اللاحقة.
ادى الخلاف الأمريكي الفرنسي حول العراق منذ نهاية سنة 2002 إلى ازمة ثنائية :أوروبية - أوروبية من جهة، وأوروبية - أمريكية من جهة أخرى. لقد انقسمت أوروبا بحكم موقفها المؤيد أو المعارض لقرار الولايات المتحدة خوض الحرب ضد العراق، ولم يوفر الأمريكيون جهدا الا واستخدموه من اجل تعميق الانقسام الأوروبي الذي يصب في صالحهم. فهم من ناحية كانوا يطمحون إلى كسب اكبر عدد من الأوروبيين إلى جانبهم، ومن ناحية اخرى كان يحدوهم الأمل في اضعاف المحور المعارض للحرب الذي مثلته فرنسا والمانيا في البداية، ثم عززه التحاق اسبانيا به بعد فوز الحزب الاشتراكي في الانتخابات التشريعية في اذار/مارس سنة 2004.
كانت الصورة قاتمة خلال سنة ،2004 وساد الاعتقاد ان لا امكانية على المدى المنظور لاصلاح العطب بين ضفتي الأطلسي الذي خلفته حرب العراق. فالأمريكيون يوغلون بعيدا في الرمال العراقية، في حين أن الأوروبيين موزعون بين التأييد المحدود لواشنطن، وبين المتفرج الذي لايقدم ولا يؤخر. ظل هذا الجمود قائما حتى الخريف حين هبطت “المعجزة” من لبنان مع التمديد للرئيس اميل لحود، الذي بعث الدم في اوصال العلاقات الأمريكية الفرنسية التي سرعان ماقفزت فوق الخلافات على العراق لتركز على الموقف من لبنان. قاد التفاهم حول لبنان إلى استصدار قرار مجلس الأمن ،1559 الذي ركز في صورة اساسية على انسحاب القوات السورية من هذا البلد.
شكل هذا القرار قاعدة العلاقات الجديدة، ذلك ان تفاهم باريس واشنطن ادى إلى نشوء جو دولي جديد وفق نظرة مختلفة إلى الوضع في الشرق الاوسط من بيروت إلى دمشق وبغداد وطهران، بالاضافة إلى غزة. وعنوان هذه المرحلة، انه من دون التفاهم الأمريكي - الأوروبي لن يحصل اي تقدم على المستوى الدولي، لاسيما وان عدد نقاط الاتفاق بين الطرفين اكبر منها في ما يخص الخلاف. وعليه توصل الجانبان الفرنسي والأمريكي إلى قناعة فحواها ان الملف اللبناني يمكنه ان يشكل نقطة انطلاق للتفاهم المشترك، وبناء على ذلك اعيد فتح خط باريس واشنطن واسعا، وتحركت بقية العواصم الأوروبية في الاتجاه نفسه. من لندن التي كانت قد اخذت جانب واشنطن إلى برلين التي كانت وقفت إلى طرف باريس.
ولم تمض الا اسابيع معدودة حتى تبلورت مواقف مشتركة حيال الملفات الاخرى :اولا، على صعيد الوضع في العراق. صار جانب الأوروبيين أكثر ليونة تجاه الاحتلال الأمريكي، وباتوا يتصرفون انطلاقا من قناعة مؤداها ان هزيمة الولايات المتحدة في العراق لاتخصها وحدها، بل الغرب بأكمله، وهي هزيمة سوف تسجل انها حصلت في وجه “الارهاب الاصولي” الذي لن يتوقف عند هذا الحد، بل سيجد الفرصة سانحة لكي يواصل حربه ضد الغرب على العموم، وعلى ارض الغرب على الخصوص. يظهر هذا الفهم واضحا من خلال مراقبة الموقف الفرنسي، الذي لم يعد على نفس القدر من التشدد تجاه تطبيق قرار مجلس الامن 1546 القاضي باستعادة السيادة العراقية في اجل اقصاه نهاية السنة الحالية، وكذلك عبر مساعدة السلطات العراقية الحالية على مستويات متعدة من الامن إلى القضاء والديبلوماسية... الخ. حيث يتم تقديم المساعدات الفرنسية من خلال عدة قنوات ثنائية وأوروبية واطلسية. لايبدو ان احدا من الأوروبيين على استعداد لارسال قوات إلى العراق لدعم الوجود الأمريكي، لكن أوروبا متضامنة مع الولايات المتحدة على بقية الجبهات الاقتصادية والسياسية من اجل كسب الرهان، واعادة اعمار العراق بأسرع فرصة ممكنة.
اما وجه التفاهم الثاني فهو يتعلق بالانسحاب من غزة. وهنا يسجل للأوروبيين، وخصوصا فرنسا والمانيا، انهم وضعوا الانسحاب في اطار “خارطة الطريق”، ورفضوا التصور الذي اراد ان يسوقه رئيس الوزراء “الاسرائيلي” لدى الادارة الأمريكية، وهو ان الانسحاب عبارة عن امتحان للطرف الفلسطيني وقدرته على ادارة الوضع. وقد نبهت باريس من خطورة هذا الفهم وضغطت على الادارة الأمريكية للابقاء على التزام خارطة الطريق، بكل مايعنيه ذلك لجهة الروزنامة والمساعدات الدولية و”الاسرائيلية”، وعلى رأسها التعهد بعدم التخريب وخلق العراقيل والعقبات امام السلطة الفلسطينية.
من الواضح حتى الآن ان هذا الملف يشكل احد مقاييس حساسية العلاقات الأوروبية - الأمريكية الجديدة، مثله مثل الملف اللبناني، الذي اشترطت باريس على واشنطن ادارته في صورة مشتركة لتجنب الوقوع في أخطاء قاتلة على غرار التجربة العراقية، التي يشكل فيها سوء التقدير الأمريكي علامة فارقة. وبالتالي، فإن الادارة الأمريكية مطالبة بالضغط على شارون لكي يقبل بإعادة اطلاق العملية السلمية على الجبهة الفلسطينية.
ان عنصر التفاهم الثالث هو الملف النووي الايراني. لقد كان رأي واشنطن منذ ان تفجرت الأزمة الأخيرة في نهاية سنة ،2003 هو احالة القضية إلى مجلس الامن لاتخاذ عقوبات ضد ايران، بما في ذلك تجييش المجموعة الدولية ضدها عسكريا، واعطاء الضوء الاخضر “لاسرائيل” للقيام بغارات ضد المنشآت الايرانية، لكن الأوروبيين ارتأوا اخذ المسألة بالحوار، وابعاد لغة العقوبات والتهديد بالحرب، وبذلك تمكنوا من اقناع طهران بتوقيف عملية تخصيب اليورانيوم، والتوقيع على “اتفاق باريس” في تشرين الثاني/نوفمبر من سنة ،2004 وبذلك سجل للترويكا الأوروبية(فرنسا، المانيا، بريطانيا)، القدرة على ابعاد القضية عن دائرة الحرب طيلة النصف الأول من سنة ،2005 ورفض حلها على الطريقة الأمريكية - “الاسرائيلية”، لكن وصول احمدي نجاد إلى الرئاسة غير المعطيات، وانتقل الملف إلى مرحلة جديدة.
ان الأمر الذي لايقبل النقاش حوله هو ان الولايات المتحدة باتت اليوم بحاجة إلى أوروبا لكي تساعدها على وضع نهاية مشرفة للحرب في العراق، والنجاح في الحرب على الارهاب، لذا ماانفكت تسايرها في ادارة بعض الملفات، وخصوصا الشرق أوسطية، وهذا أمر سوف ينعكس ايجابا لصالح العرب الذين تعود معظم خسائرهم إلى التفرد والانحياز الأمريكي إلى طرف “اسرائيل”.
تلقى الاتحاد الأوروبي ضربة كبيرة خلال العام 2005 تمثلث برفض الفرنسيين لاتفاقية الدستور، الأمر الذي عكس نفسه مباشرة على بقية الدول الأوروبية التي سارع اغلبها إلى تأجيل الاستفتاء، إما بدافع الخوف من مواجهة نفس المصير، او التذرع بذلك من اجل الالتفاف على هذا الاستحقاق في المرحلة الحالية.

الاتحاد الأوروبي.. لعنة الدستور
رغم التقديرات المتشائمة فانه لم يدر في خلد الرئيس الفرنسي جاك شيراك ان الاستفتاء على الدستور سوف يأتي بنتيجة سلبية، تتحول إلى زلزال يضرب بقية ارجاء الاتحاد الأوروبي. فهو كان يظن ان أوروبا اصبحت في موقع لا يحتمل الاختلاف الحاد من حوله، إلا أن الفرنسيين برهنوا على العكس، وتمكنوا من تعطيل استحقاق أوروبي مهم على خلفية احتجاجات داخلية، بعضها يتصل بقضايا أوروبية والبعض الآخر بقضايا فرنسية. كان يمكن لشيراك ان يتخطى عقبة الاستفتاء الشعبي، ويحصل على موافقة البرلمان الذي يحظى فيه حزبه بالاكثرية، على غرار ما حصل في المانيا، لكنه فضل ان يذهب إلى أخذ رأي الشعب مباشرة في محاولة يقيس من خلالها نبض الشارع العام في هذه الفترة، حيث تجرى الاستعدادات على نحو صامت لانتخابات الرئاسة سنة ،2007 التي كان ينوي ترشيح نفسه فيها لولاية ثالثة. لقد خاب رهان شيراك، لذا كان رد فعله المباشر انه اقال حكومة جان بيار رافران التي لم تكن تحوز شعبية بين الفرنسيين، وكلف دومينيك دو فيلبان مهمة معالجة الموقف.
كان واضحا منذ الانتخابات البرلمانية الأوروبية في حزيران/يونيو من السنة الماضية ان معارضة المشروع الأوروبي آخذة في النمو، وهي ليست ظاهرة عابرة، بل مسألة تتعلق بآليات عمل هذا المشروع، لذا لم تقتصر المعارضة على بلد بعينه سواء كان من أوروبا القديمة او الجديدة، واللافت هنا انها في بعض الاحيان اكثر حدة من جانب بلدان حديثة الانضمام مثل بولونيا، التي تستهلك القسط الاساسي من الدعم الأوروبي الموجه للبلدان العشر التي انضمت السنة الماضية للاتحاد. ان الامر لا يتعلق فقط بمدى قوة الشعور الأوروبي كما كان يخمن البعض قياسا إلى الحالة الانجليزية، التي ميزت نفسها عن بقية البلدان الاخرى واحتفظت بمسافة باختيارها الجوانب الاقل ضررا وكلفة، لجهة الاندماج والالتحاق بمؤسسات الاتحاد، حيث ابقت على عملتها الوطنية، ولم تنخرط كليا في “اتفاقية شينغين” الخاصة بفتح الحدود امام تنقل الافراد.
تبدو الحالة البريطانية كمثل من يضع رجلا في الداخل والاخرى في الخارج، فيصبح بوسعه الدخول او الانسحاب ساعة يشاء، في حين تنخرط اطراف اخرى، وترمي بكل ثقلها في المشروع، كما هو حال الثنائي الفرنسي الالماني الذي بات يطلق عليه لقب محرك القاطرة الأوروبية، نظرا لتحمله القسط الاكبر من الاعباء. ان السلوك البريطاني كان قد دفع البعض منذ عدة سنوات إلى اقتراح: “أوروبا بسرعات متفاوتة”. والمقصود من ذلك عدم تحميل دول أوروبا الغربية المتطورة اقتصاديا عبء رفع مستوى الدول الاقل تطورا، لان الفاتورة المدفوعة باتت غير محتملة للمواطن الأوروبي الغربي، الذي يشعر انه دفع الكثير خلال العقود الثلاثة الاخيرة من اجل ادماج اسبانيا والبرتغال واليونان والنمسا، ومطلوب منه اليوم ان يستمر في التضحية إلى ما لا نهاية، طالما ان توحيد أوروبا لم يكتمل بعد، فهناك رومانيا وبلغاريا وكرواتيا وصربيا وأوكرانيا تنتظر دورها بدءا من السنة القادمة. ان الملاحظة الاساسية هي ان هذه الدول تحتاج لكي تدخل الاتحاد إلى مساعدات اقتصادية ضخمة لكي تقترب المستويات المعيشية فيها من الحدود الدنيا لدول الاتحاد. من هنا كان رد الفعل الفرنسي ضد الدستور الأوروبي عنيفا، وقد توزعت نسبة المعارضين (55 في المائة) على كافة القوى السياسية، حيث انقسم اليمين والاحزاب المحسوبة على اليسار حول هذا الامر. والتقى اقصى اليسار مع اقصى اليمين على رفض الدستور، اي الاكثرية الشعبية.
بدأ المواطن العادي في أوروبا الغربية يدرك ان الاستمرار في الطريق من دون ضوابط سوف يحوله إلى ممول لبناء أوروبا الشرقية، اما الأوروبي الشرقي فلديه شعور انه في طور التحول إلى سوق لرأس المال الغربي، كما انه لن يلبث ان يفقد كافة الامتيازات التي حصل عليها بسبب الخصخصة القادمة والسياسات الرأسمالية.
لا تكمن العواقب في تعطيل عجلة الدستور فقط، وانما الحد من السرعة التي كان يسير بها الاتحاد الأوروبي منذ حوالي عقدين من الزمن حيث لم يسبق له ان واجه في طريقه عقبة بهذا الحجم. والنتيجة الثانية لهذا الرفض هي ان أوروبا مضطرة من الآن فصاعدا ان تأخذ عامل السرعة في عين الاعتبار، وان تقبل مبدأ تنويع وتفاوت الاستطاعة.
يضاف إلى ذلك ان المحور الالماني الفرنسي عانى من صدمة كونه كان يعول على استمرار العمل بنفس الوتيرة، لكنه اضطر إلى التوقف مؤقتا عن الحلم، وشرع في مراجعة للنفس، والعمل من اجل امتصاص الصدمة، وابتكار طرق عمل لخلق قواسم أوروبية مشتركة اكثر صلابة من التي سادت في السابق، ذلك ان احدى نتائج الرفض الفرنسي كانت دعوة البعض إلى التراجع عن الانجازات المشتركة مثل العملة الموحدة (اليورو). ان الجهود منصبة من طرف الحريصين على المشروع الأوروبي على حصر الرفض بالدستور، وليس بأوروبا المتحدة، وهذا يحتاج إلى تغيير في طرق العمل، والنظر إلى المشروع الأوروبي بترو اكثر، وعدم اتخاذ قرارات غير شعبية. لكن هذا يتطلب قبل كل شيء سياسات داخلية اقرب إلى الشارع منها إلى منطق الليبرالية الجديدة التي تريد تحويل أوروبا إلى شركة رأسمالية كبيرة.
ان موعد الاقلاع الأوروبي من جديد ليس قريبا، لأن الثنائي الالماني الفرنسي مشغول إلى حين. فألمانيا تعيش هاجس ثنائية الحكم بين الاشتراكيين واحزاب اليمين، وغير موحدة النظرة تجاه أوروبا. اما فرنسا فانها سوف تبدأ منذ ربيع 2006 الاستعدادات الفعلية لانتخابات الرئاسة التي سيكون التنافس خلالها كبيرا ليس بين اليمين والاشتراكيين فحسب، بل داخل كل من المعسكرين ايضا.
سيظل الثالث من تشرين الأول/اكتوبر يوما تاريخيا بالنسبة لتركيا، حيث حققت الخطوة الحاسمة في مسار انضمامها الى الاتحاد الأوروبي، بانتزاعها قرار الموافقة على فتح باب مفاوضات العضوية. لم يكن الأمر سهلا. وقد شهدت السنوات الثلاث الماضية تجاذبات على هذا الطريق وصلت ذروتها في الايام الاولى من هذا الشهر، حينما اقترب الموعد الذي حدده الطرفان في نهاية السنة الماضية.
كان الاعتقاد السائد لدى الاوساط التركية وبعض الاوساط الأوروبية ان القضايا الجوهرية في ما يتعلق ببدء المفاوضات تم حسمها خلال الاعوام الماضية، ولم تتبق سوى بعض المسائل الثانوية والشكلية، لكن تبين عشية الموعد المضروب ان القضية اعقد بكثير، وانها كلما اقتربت من نهايتها اصبحت اكثر صعوبة. بدا من الناحية النظرية، ان العقبة النمساوية هي التي كادت تعيد الأمور الى نقطة الصفر. وكما شكل النمساويون السد المنيع في وجه الزحف التركي نحو أوروبا في القرن السادس عشر، وأوقفوه عند ذلك الحد، ومنعوه من اجتياحها، فإن التاريخ كاد يكرر نفسه. اذ انه، وعلى نحو مفاجئ، اعترضت فيينا عملية انضمام تركيا، ودعت الى الاكتفاء بقيام “شراكة تفضيلية” معها، وذلك للاسباب المعروفة التي تم سوقها في السابق، ومنها ان تركيا بلد غير أوروبي جغرافيا وحضاريا، وتفصلها مسافات كبيرة عن بقية بلدان الاتحاد، وبالتالي من الصعب جدا على الطرفين تحقيق الانسجام، بل سيترتب على قضية الانضمام مشاكل كبيرة اقتصادية وسياسية وثقافية واجتماعية، سوف تتحملها أوروبا وحدها.

أوروبا تركيا.. ضوء في آخر النفق
لا تنفرد النمسا وحدها في تبني هذه الافكار، بل انها تكاد تكون قاسما مشتركا في اوساط الأوروبيين، وعلى نحو خاص اليمين واليمين المتطرف. وصار المعارضون للعضوية التركية يركزون على الجوانب الثقافية والاجتماعية والسياسية اكثر من تركيزهم على الاقتصاد، بعد ان اثبتت تركيا في نهاية السنة الماضية ان ناتجها الخام تجاوز الناتج الخام للدول العشر حديثة الانضمام للاتحاد الأوروبي مجتمعة، رغم ان بعضها يتفاخر بمعدلات نمو عالية مثل تشيكيا وهنغاريا وحتى بولونيا. واستطاع الاتراك من خلال البرهان الاقتصادي ان يؤكدوا امرين مهمين: الأول، ان تركيا لا تأتي الى الاتحاد الأوروبي لكي تتسول المساعدات والدعم، فهي بغنى عن ذلك، وبالتالي لن تجتاح عمالتها بلدان الاتحاد حيث الشروط افضل نسبيا على مستوى الأجور، لكن العنصرية التي ازداد منسوبها بعد احداث 11 ايلول/سبتمبر، صارت تدفع بالعمالة التركية في الاتجاه المعاكس، وتشير احصائيات المانية إلى ان الكثير من الاتراك الذين يعيشون منذ عدة عقود في المانيا، شرعوا في العودة الى بلدهم رغم النجاحات التي حققوها. من هنا فإن التلويح بخطر هجرة كثيفة للعمالة التركية الى أوروبا لم يعد ينطلي على احد، بل ان العديد من الخبراء الاتراك يتحدثون اليوم عن ان العمالة التركية لن تلبث ان تصبح مطلوبة من طرف بعض دول الاتحاد الأوروبي، لاسيما المانيا التي اعتادت هذا الأمر. ثانيا، ان انضمام تركيا هو اضافة للطرفين على المستويات الاقتصادية والثقافية والسياسية، وليست تركيا هي المستفيد الوحيد. من هنا كان الاتراك يفاوضون على أرضية ثقة عالية بالنفس، وحنكة وبراغماتية، وقدرة على المناورة، ورفض للشروط المجحفة. وتبين انهم لم يتنازلوا عن ثوابتهم قبل بدء المفاوضات، وعلى الخصوص الاعتراف بقبرص. لقد حاول الأوروبيون ان يجعلوا من هذه المسألة شرطا مسبقا لبدء المفاوضات، وكانت حجتهم تقول، اذا ارادت تركيا التفاوض مع الاتحاد يتوجب عليها قبل ذلك الاعتراف بجميع دوله. لكن الاتراك ردوا على ذلك عبر تذكير الأوروبيين بقضية الاستفتاء الذي شهدته قبرص سنة 2004 بصدد انضمام شطري الجزيرة الى الاتحاد الأوروبي، وكانت نتيجته ان الشطر اليوناني صوت ضد مشروع وحدة الجزيرة في حين ان الشطر التركي صوت لمصلحة الوحدة والانضمام الى الاتحاد، ومع ذلك قامت أوروبا بضم الشطر اليوناني ورمت الشطر التركي.
من خلال التمسك بهذه الحجة برهن الاتراك على ان الكرة ليست في ملعبهم، لذا اصروا على انهم لن يعترفوا بقبرص اليونانية كشرط مسبق للمفاوضات، بل وعدوا بأنهم سوف يعالجون الأمر بوصفه بندا على جدول مفاوضات الانضمام، وكان لهم ما أرادوا. اما النقطة الثانية التي وقف امامها الأوروبيون، فهي قضية نتيجة المفاوضات ومداها الزمني، فهم اصروا على انها مفتوحة على المستويين، ولم ينزعج الاتراك من هذا الموقف لانهم صاروا على قناعة بأن الجري وراء أوروبا لن يأتي بنتيجة، والأهم بالنسبة لهم ان يعززوا موقعهم الاقتصادي والسياسي، وحينها سوف تزداد الحاجة الأوروبية اليهم. لذا اخذوا الموقف الأوروبي هذا بكل رحابة صدر، منطلقين من نقطة اساسية، وهي انه من الخطأ الاصرار على نتيجة للمفاوضات قبل الشروع بها.
ان السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: ما مصادر قوة الموقف التركي الذي انتقل من ضعف ملحوظ امام أوروبا الى التعامل معها من موقع الند؟
يكمن العنصر الأول في قوة الموقف التركي في حال الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي حققه “حزب العدالة والتنمية” خلال ثلاث سنوات من وجوده في الحكم. لقد شكل ذلك مفاجأة للاوساط كافة بما فيها التركية، اذ ان التقديرات كانت ترى انه سوف يفشل بسرعة على المستوى الداخلي، وسيتراجع عن الخيار الأوروبي، لكنه نجح في استعادة التوازن الاقتصادي لاول مرة منذ اكثر من عقد، وصارت تركيا على مستوى نمو دول أوروبا المتوسطية الجنوبية. واللافت ايضا ان اكثر الاحزاب بعدا، من الناحية المبدئية عن المجتمع الأوروبي اي الحزب الاسلامي، هو أكثر الاحزاب اندفاعا اليوم نحو أوروبا. اما العنصر الثاني فهو ان تركيا باتت مرشحة لتكون القوة الاقليمية في المجال الاسلامي، بعدما قدمت نموذجا جامعا بين المرتكزات الاسلامية في ابعادها الرمزية والثقافة الحية ومقومات الحداثة الموضوعية، أو من حيث البعد الاستراتيجي بعودتها القوية للرهان الاقليمي الاسلامي العربي طرفا فاعلا ومحوريا، مما هيأها لاداء دور جيوسياسي متزايد في منطقة تستأثر حاليا باهتمام القوى الدولية، ومن هنا تأتي اهمية توظيف هذا الدور.
يأتي العنصر الثالث في قوة الموقف التركي من ادراك الاتراك اليوم ان فشل الاتحاد الأوروبي في اقرار بدء المفاوضات من شأنه ان يسبب انتكاستين: انتكاسة الديمقراطية في تركيا، وانتكاسة الادعاءات “الكونية” للمشروع الأوروبي. وبالتالي فان القرار يستجيب لتحديين: الأول، قدرة تركيا على الالتزام بالمعايير الأوروبية. الثاني، قدرة أوروبا على “ابتلاع” دولة مسلمة من سبعين مليون نسمة.
هناك اجماع على ان قرار بدء المفاوضات لا يعني قبولا مضمونا ولا آليا، وهناك من يرى ان المفاوضات قد تتطلب اطارا زمنيا لا يقل عن عقد ونصف العقد، ومع ذلك يبقى القرار تاريخيا لأنه أسقط الاعتراض المبدئي على انضمام تركيا.

رحيل بابا الحرب الباردة.. والجديد أمام الامتحان
طوت الكنيسة الكاثوليكية مع رحيل البابا يوحنا بولس الثاني في نيسان/ابريل الماضي صفحة احد اكثر البابوات حضورا على المسرح الدولي، بسبب دوره السياسي البارز خلال مرحلة الحرب الباردة، كما انها سجلت نهاية ثالث اطول مرحلة بابوية في تاريخها الذي يمتد على عشرين قرنا، فقد ضرب “كارول فويتيلا” رقما قياسيا باستمراره على سدة البابوية منذ سنة 1978 حتى رحيله. ولكون البابا خرج عن نطاق المهام التقليدية التي درجت الكنيسة على القيام بها، فانه لم يتم النظر الى رحيله من زاوية الفراغ الذي خلفه في الفاتيكان فقط، بل من جملة اكبر من الاعتبارات الدينية والسياسية والثقافية على مستوى جميع انحاء المعمورة، وذلك كونه انخرط في العمل السياسي الى حد طغى فيه هذا الجانب على بقية اهتماماته، وصار للفاتيكان في فترة جلوسه على الكرسي الرسولي مكانة سياسية لم تكن الكنيسة الكاثوليكية تطمح او تعمل للوصول اليها. يضاف الى ذلك الدور المهم الذي لعبه على مستوى حوار الاديان والحضارات والتقريب بين الشعوب، وخصوصا في سنواته الأخيرة بعد تصاعد موجات التطرف على اثر هجمات 11 ايلول /سبتمبر.

من المؤكد ان الدور الذي لعبه لم يكن نابعا من اختياره فقط، وانما جاء محصلة للتوازنات الدولية، الا ان شخصية البابا نفسه ساهمت الى حد كبير في تحديد الاتجاه العام الذي رسا عليه موقف الفاتيكان طوال هذا الوقت. وسواء كان وصوله للموقع وليد مصادفة تاريخية على مستوى بلاده بولونيا، وعلى الصعيد العالمي، ام انه جاء نتيجة تخطيط دولي. فإن بولونيا كانت تشهد حالة من الحراك العمالي ضد الحكم الشيوعي، وكان من مصلحة الغرب ان يتطور ذلك الموقف ليأخذ حالة تمرد شعبي شامل. من هنا أدت “المصادفة” دورها التاريخي، لكي تنهض الكنيسة الكاثوليكية بالمهمة التي عجزت عنها الاجهزة الغربية طوال عدة عقود، من اجل فتح ثغرة في الجدار الحديدي.
نجح البابا في ان يكون زعيما سياسيا بقدر ما كان زعيما روحيا، وتمكن من زعزعة اللبنة الاولى في نظام ياروزلسكي في بولونيا، مما مهد للانهيار اللاحق في اوروبا الشرقية، والاتحاد السوفييتي، وتكفي شهادة زعيم “حركة تضامن” في ذلك الوقت والرئيس البولوني لاحقا ليش فاليسا للدلالة على الدور الكبير الذي لعبه البابا على صعيد خلخلة بنيان الشيوعية. لقد استذكر فاليسا زيارة البابا الى وطنه الأم بعد سنة من اعتلائه سدة البابوية سنة ،1979 وقال: “ندرك انه بعد تلك الزيارة امكننا جمع 10 ملايين شخص للاضرابات والمظاهرات والمفاوضات. كنا قد حاولنا سابقا لكننا لم ننجح، كان البابا هبة من السماء”.
رغم التهم التي وجهت للبابا على انه جاء لأداء مهمة محاربة الشيوعية، والتحالف مع الرأسمالية لتقويض الانظمة الشيوعية في الاتحاد السوفييتي واوروبا الشرقية، فإنه ظل يؤكد ويعمل ليثبت أن هذا التلاقي حصل في اطار ادائه واجبه في محاربة الالحاد، كما ان مهمته لم تتوقف عند هذه القضية، ولم يجامل الرأسمالية في ما يخص مواضيع كثيرة منها الحروب والسلام، لذا تجند لحوار الاديان وخصوصا الاسلام. لقد كان موقفه في هذا الميدان حصيلة رؤية متكاملة اساسها الاحترام العميق، ففي ايار/مايو سنة 2001 زار الجامع الاموي في دمشق ليكون اول بابا كاثوليكي يقوم بهذه الخطوة عبر التاريخ، ووقف احتراما امام ضريح القائد التاريخي صلاح الدين الايوبي محرر “بيت المقدس” من الصليبيين. وفي الوقت الذي يعتبر فيه هذا الموقف اعتذارا صريحا من الحروب الصليبية، فإن البابا رفض ان يلقي الذنب على الفاتيكان في ما يخص المحرقة اليهودية، ولم يرضخ للضغوط التي سلطت عليه لكي يعتذر عن دور مزعوم للبابا بيوس الثاني عشر في المساعدة على اضطهاد اليهود، وتحديدا يهود روما، ولم يقر في نهاية المطاف الا باخطاء بعض المسيحيين كأفراد، وهو مقابل ذلك ابدى مواقف مناصرة للقضايا العربية خاصة القضية الفلسطينية والحرب على العراق.
ان السؤال الذي طرح نفسه بعد رحيل البابا هو: هل تستمر الكنيسة الكاثوليكية حاضرة في الحدث السياسي على المستوى الدولي ام تغير اتجاهها مع البابا الجديد جوزيف راتسينجر؟
يعتبر البابا الجديد الذي اخذ لقب “بنديكت السادس عشر” محافظا في نظر الكثير من الاوساط الكنسية في العالم، وهو مضطر هنا الى مواجهة جو التذمر داخل الوسط الكاثوليكي، من تقلص عدد اتباع الكنيسة بسبب انغلاقها. لكن انصاره يقولون ان تجاربه اثناء الحكم النازي في بلده المانيا، اقنعته بأن على الكنيسة أن تقف الى جانب الحقيقة والحرية، الأمر الذي لا يتفق معه بعض كرادلة امريكا اللاتينية وافريقيا الذين يعتبرون انه هو المسؤول عن جو الصرامة والانغلاق والتعصب خلال فترة سلفه، حيث كان يشكل مركز قوة اساسياً.
هناك نقطة اساسية تشكل امتحانا للبابا الجديد، وهي تتعلق بموقفه من الاسلام وقضية حوار الأديان التي اولاها سلفه عناية كبيرة بعد هجمات 11 سبتمبر، وخلال الحرب على العراق، حين وقف بقوة ضد دعوات صراع الحضارات ووضع في مواجهتها مسألة الحوار بين الاديان. ان الشائع عن البابا الجديد هو انه غير متوافق مع الاسلام الى حد ما، اذ سبق له ان اعترض على انضمام تركيا للاتحاد الاوروبي لأسباب دينية، ووصف ذلك بأنه “خطأ فادح” و”قرار مخالف للتاريخ”. كما انه كان من بين اكثر المطالبين بأن ينص الدستور الاوروبي على الموحد على مسألة الجذور المسيحية اليهودية لاوروبا. يضاف الى ذلك ان بنديكت السادس عشر الذي نشر عنه انضمامه في صباه الى الشبيبة النازية قد اظهر في السابق تقاربا مع اليهود، حيث كان أول من ألقى كلمة يندد فيها بكراهية اليهود في العام الماضي اثناء منتدى عقد في نيويورك حول “معاداة السامية”، وقد وصفه كبير حاخامات تل ابيب “مائير لاو” بأنه صديق للشعب اليهودي. والسؤال: هل يستمر البابا الجديد على طريق سلفه في الموقف من قضية القدس؟ حيث اعترف سنة 2000 للسلطة الفلسطينية بحقها في المدينة كسلطة تنفيذية، وبالحفاظ على التراث الروحي فيها. ومن القضايا التي سوف تشكل تحديا فعليا هي مسألة ضم المدينة الى “اسرائيل”.
رغم الاسئلة الكثيرة والمخاوف وحملات النقد التي وجهت للبابا الجديد فهو كان متوازنا في مواقفه وردود افعاله، فمثلما التقى ممثلين عن الطائفة اليهودية في المانيا، فإنه التقى ممثلين عن المسلمين ايضا، ولوحظ ان الطرفين اشادا به بوصفه مدافعا عن القيم الأخلاقية. وعلى العموم يصعب اصدار حكم نهائي على البابا الجديد لانه سيظل منشغلا في سنته الأولى بترتيب شؤون البيت الداخلي، ومن بعد ذلك ستتضح الخطوط العامة لسياساته تجاه الخارج.