الخليج

لم يختلف عام 2005 عن سوابقه بالنسبة لتركيا وحزب العدالة والتنمية الذي احتفل في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني بالذكرى الثالثة لانتصاره الكبير الذي أوصله الى السلطة عام 2002. فيما بقيت القضايا الساخنة التي تعودت عليها تركيا ضمن أحداث عام 2005 وبدأ بتطور مهم بالنسبة للسياسة الخارجية لحكومة العدالة والتنمية. حيث زار وزير الخارجية عبد الله جول “اسرائيل” في 5 يناير/ كانون الثاني تحضيرا للزيارة التي قام بها اردوغان بداية مايو/ أيار الى “اسرائيل”. حيث التقى رئيس الوزراء شارون على الرغم من انه اتهم “اسرائيل” حكومة ودولة بالارهاب بعد اغتيال الشيخ احمد ياسين. وسبق هذه الزيارة حملة كبيرة من واشنطن وتل ابيب ومنظمات اللوبي اليهودي استهدفت اردوغان وهددته بإغلاق أبواب أمريكا في وجهه اذا لم يتراجع عن موقفه ويسعى لتطوير علاقاته مع “اسرائيل”. وكان هذا التهديد كافيا بالنسبة لاردوغان الذي تلقى الدعوة لزيارة واشنطن بعد يومين من عودته من “اسرائيل” التي سعت طيلة عام 2005 لاعادة الأمور الى وضعها الطبيعي في العلاقات مع تركيا وحكومة العدالة والتنمية التي أثبتت رغبتها في تطوير العلاقات مع تل ابيب بتبادل الزيارات العديدة معها على مستوى الوزراء وجنرالات الجيش.

عام 2005 بدأ ساخناً وانتهى ساخناً

فوجئ الجميع في بداية اكتوبر/ تشرين الأول بالمعلومات التي بدأت تتحدث عن لقاءات سرية بين اردوغان ورجال اعمال يهود و”اسرائيليين” لشراء بعض مؤسسات القطاع العام التي تمت خصخصتها.
ولم يكن هذا التودد التركي ل “اسرائيل” مانعا امام حكومة اردوغان التي ارسلت الرئيس احمد نجدت سيزار الى دمشق نهاية أبريل/ نيسان على الرغم من الاعتراض الامريكي على ذلك. حيث أعلن السفير الامريكي في أنقرة اريك اديلمان عن اعتراضه رسميا على هذه الزيارة مما أدى لتعرضه لحملة اعلامية وسياسية كبيرة انتهت بتقديم استقالته ومغادرته تركيا التي تعرضت طيلة عام 2005 لضغوط امريكية وأوروبية للابتعاد عن سوريا بحجة الاتهامات الموجهة لدمشق في حادث اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري.
ودون ان تبالي أنقرة بهذه التهديدات التي اجلت زيارة الرئيس السوري بشار الاسد الاستجمامية الى جنوب تركيا في تموز/ يوليو إلا انها لم تمنع وزير الخارجية عبد الله جول من زيارة دمشق فجأة أواسط نوفمبر/ تشرين الثاني مقترحا عليها الوساطة لحل مشكلة استجواب المسؤولين السوريين الخمسة وبحث مجمل القضايا الاقليمية الساخنة وفي مقدمتها العراق بكل انعكاساتها على دول المنطقة وبشكل خاص سوريا وتركيا وايران التي يعيش فيها الاكراد ايضا.
وكان موضوع الأكراد تركياً وعراقياً الموضوع الاهم في مجمل تحركات حكومة العدالة والتنمية خلال عام 2005. حيث استمرت الضغوط الأوروبية على أنقرة للاعتراف للاكراد بالمزيد من الحقوق القومية والثقافية والسياسية التي اقرها البرلمان عام 2004 بالبعض منها كالاعتراف للأكراد باستخدام لغتهم في وسائل الاعلام والمعاهد والمدارس الخاصة بعد ان بدأ التلفزيون الحكومي في فبراير/ شباط 2005 بث برامج اخبارية لمدة نصف ساعة يوميا باللغات الكردية والعربية والشركسية والبوسنية.
فيما استمرت العمليات المسلحة التي يقوم بها عناصر حزب العمال الكردستاني انطلاقا من شمال العراق الذي يتواجد فيه حوالي خمسة الاف من المسلحين الاكراد. وفشلت أنقرة طيلة عام 2005 في مساعيها لاقناع واشنطن والزعيمين الكرديين مسعود البرزاني وجلال الطالباني بضرورة التعاون المشترك ضدهم. وكان هذا الفشل كافيا لاقناع حكومة اردوغان بضرورة اعادة النظر في سياسات أنقرة الخاصة بالمشكلة الكردية واعترف اردوغان في سبتمبر/ ايلول بوجودها بعد ان اعترف بخطأ جميع الحكومات السابقة في معالجتها.
وكان هذا الاعتراف كافيا بالنسبة للأوساط السياسية والاعلامية حتى بدأت نقاشاً واسعاً حول ماهية هذه المشكلة التي قال اردوغان أواسط نوفمبر/ تشرين الثاني ان حلها قد يكون من خلال الاعتراف بالهوية الكردية مع ضرورة على الحفاظ على الانتماء المشترك للجمهورية التركية بحق المواطنة. وحظي هذا الطرح الجديد لحكومة العدالة والتنمية بتأييد ومباركة كردية عراقية حيث عبر الزعيمان الكرديان العراقيان البرزاني والطالباني في مناسبات مختلفة خلال الربع الاخير من العام 2005 عن استعدادهما لمساعدة اردوغان في حل المشكلة الكردية داخل تركيا بعد ان أكدا على ان هذا الحل يجب ان يكون سياسيا وسلميا بعيدا عن الاساليب التقليدية . فيما كان الجميع يعرف ان المقصود بالحل السلمي والسياسي هو اصدار عفو شامل عن عناصر واتباع وانصار حزب العمال الكردستاني التركي بزعامة عبد الله أوجلان ليساهم ذلك في اقناع مسلحي الحزب بالتخلي عن العمل العسكري والعودة الى تركيا وممارسة النشاط السياسي ضمن حدود الدستور التركي.
وجاء لقاء المصالحة الذي تبناه وزير الخارجية عبد الله جول في اسطنبول 5 ديسمبر/ كانون الأول بين قيادات السنة والسفير الامريكي في بغداد زالماي خليل زاد ليثير العديد من التساؤلات في الاوساط الدبلوماسية التي تحدثت عن احتمالات الوساطة التركية بين واشنطن وطهران ايضا. وهي الوساطة التي قام بها اردوغان بداية سبتمبر/ ايلول بين وزيري الخارجية “الاسرائيلي” سيلفان شالوم والباكستاني خورشيد قصوري على الرغم من رفض “اسرائيل” المتكرر لمساعي الوساطة التركية بين دمشق وتل ابيب التي حملها اردوغان الى رئيس الوزراء شارون خلال لقائه به في تل ابيب اواخر أبريل/ نيسان.
وكان شهر ديسمبر بداية الحوار الساخن بين أنقرة وعواصم الاتحاد الاوروبي التي دخلت في نقاشات حادة مع حكومة اردوغان لاقناعها بضرورة الاستعجال في تطبيق كل الاصلاحات الديمقراطية التي اقرها البرلمان التركي لضمان مباحثات العضوية بين الاتحاد وأنقرة. وهو ما تحقق لحكومة اردوغان في الثالث من اكتوبر/ تشرين الأول حيث فتحت حكومة العدالة والتنمية صفحة جديدة في تاريخ الجمهورية التركية الحديثة التي انتظرت اكثر من 41 عاما على ابواب الاتحاد الاوروبي الذي فتح ابواب حديقته للاتراك الذين بدأوا فعلا مباحثات العضوية ومع الاتحاد على الرغم من الشروط الصعبة التي فرضها على أنقرة وطالبها الاوروبيون بفتح الموانئ والمطارات التركية امام السفن والطائرات القبرصية اليونانية والاعتراف بجمهورية قبرص التي يمثلها رسميا القبارصة اليونانيون الاعضاء في الاتحاد الاوروبي. فيما استمر القبارصة اليونانيون قبل وبعد بدء مباحثات العضوية في تهديداتهم باستخدام حق الفيتو ضد اي حوار مستقبلي بين الاتحاد وتركيا التي طالبها البرلمان الاوروبي نهاية سبتمبر/ أيلول بالاعتراف بالمجازر التي يقول الارمن ان الاتراك قاموا بها عام 1915.
واقرت العديد من برلمانات اوروبا ومنها فرنسا بهذه المجازر التي كانت السبب في توتر علاقات أنقرة مع باريس خلال عام 2005 بعد ان دعا نيكولاس ساركوزي لاغلاق ابواب البيت الاوروبي في وجه الاتراك. وهو ما طالبت به انجيلا ميركل قبل وبعد ان اصبحت مستشارة المانيا الجديدة بداية نوفمبر/ تشرين الثاني. ودون ان يمنع ذلك رئيس الوزراء اردوغان من تحركاته الاوروبية حيث زار خلال 2005 العديد من عواصمها المهمة. وكان لقائه مع الرئيس الروسي بوتين ورئيس الوزراء الايطالي برلسكوني في مدينة ترابزون على البحر الاسود 25 نوفمبر/ تشرين الثاني هو الأخير في مسلسل التحركات التركية الاقليمية والدولية. كما زار اردوغان الكويت واليمن في 24 اكتوبر/ تشرين الأول وسبق ذلك زيارته لدولة الامارات العربية المتحدة وسلطنة عمان. وكانت قطر والبحرين المحطتين الأخيرتين في جولة اردوغان الخليجية في محاولة منه لاقناع هذه الدول ورجال اعمالها للاستثمار في تركيا التي باعت مؤسسة الاتصالات الوطنية لشركة “اوجيه” السعودية اللبنانية التي تملكها عائلة الحريري. كما وقعت شركة دبي القابضة اواخر اكتوبر/ تشرين الأول على اتفاق مع بلدية استانبول للقيام باستثمارات واسعة بقيمة 5 مليارات دولار في تركيا التي زارها وزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جاسم لنفس الغرض.
فيما اعترف الجميع بأهمية الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي حققته حكومة العدالة خلال عام 2005 الذي انتهى بتراجع كبير في التضخم المالي الذي لم يتجاوز 8 في المائة بعد ان كان قبل 3 اعوام يزيد على 80 في المائة. وكان هذا الاستقرار وبدء مباحثات العضوية مع الاتحاد الاوروبي واهتمام الرأسمال الخليجي بتركيا كافيا لارتفاع اسهم بورصة اسطنبول التي حققت ارقاما قياسية خلال عام 2005 كما هي حققت ارباحا عظيمة لمستثمريها وصلت الى 90 في المائة تقريبا خلال عام.
هذه التطورات الايجابية على الصعيدين السياسي والاقتصادي داخليا وخارجيا لم تكن كافية بالنسبة لتركيا وحكومة العدالة والتنمية لحل مشكلة الحجاب الذي مازال يشغل بال الحكومة ذات الجذور الاسلامية والتي نجحت في الحد من دور العسكر في الحياة السياسية. فقد اصبح اعتبارا من مارس/ آذار 2005 الامين العام لمجلس الامن القومي مدنيا بعد ان كان جنرالا تابعا لقيادة الاركان. وحرص رئيسه الفريق أول حلمي اوزكوك على التهرب من اي مواقف سياسية قد تحرج الحكومة في علاقتها مع الاتحاد الاوروبي واشترط على أنقرة وضع حد نهائي لتدخل الجيش في الحياة السياسية التي تعوّد الجنرالات على التأثير فيها ليس من خلال الانقلابات العسكرية بل من خلال القوى المؤيدة لها اعلاميا وسياسيا واقتصاديا وبالطبع بحجة الحفاظ على النظام العلماني القائم في البلاد. حيث شهد عام 2005 هجوما عنيفا على جميع مقولات اتاتورك مؤسس الجمهورية التركية الحديثة التي فقدت الكثير من مضمونها التاريخي خلال عام 2005 الذي حمل معه العديد من الاشارات للكثير من التغييرات الاستراتيجية في مقولات وسياسات أنقرة على الصعيدين الداخلي والخارجية وفي جميع المجالات الايديولوجية والسياسية.