النهار / نقولا ناصيف

لم يسبق في تاريخ سوريا مذ افتتحت الانقلابات العسكرية في العالم العربي عام 1949 ان شهدت ما أقدم عليه النائب السابق للرئيس السوري عبد الحليم خدام مساء الجمعة (23 كانون الاول) عندما ادلى بشهادة مناوئة لنظام بلاده، معلناً انشقاقاً متأخراً بعدما كان قد جُرّد من مواقعه في السلطة. في الغالب اعتاد رجال الحكم في سوريا على مرّ حقبهم تصفية الحسابات في ما بينهم بالانقلابات والاغتيالات: ثلاث مرات في سنة واحدة عام 1949، ثم عام 1954، فعام 1960 وعام 1963، وكذلك عام 1966، ثم عام 1970. وعلى امتداد 51 عاماً من تاريخ سوريا لم يجرِ انتقال سليم للسلطة الا مرة واحدة عام 2000 عندما توفي الرئيس حافظ الاسد، بأن انتقلت الخلافة من الاب الى الابن عبر تعديل للدستور من ضمن نظام الحكم نفسه، بالرجال اياهم والحزب اياه والجيش اياه.

كانت تلك المرة الاولى ايضاً في تاريخ هذا البلد تحصل خلافة للسلطة ضمن البيت الواحد، ولا تراق نقطة دم، ولا يُقال ان ثمة "مؤامرة" حيكت.

وعلى امتداد اكثر من نصف قرن من عمر الانقلابات العسكرية في سوريا والتي كانت، كذلك، فاتحة ولادة ما يُعرف اليوم بـ"النظام الامني"، كان يُكتشف امر عصيان او انقلابيين في وقت لاحق. وفي الغالب ايضاً بعد تصفية العصيان والانقلابيين من اجل المحافظة على نظام الحكم. كانت هذه حال ما قيل عن سليم حاطوم عام 1966، وعبد الكريم الجندي عام 1969، وصلاح جديد عام 1970، ورفعت الاسد عام 1984، وغازي كنعان عام 2005. وكان هؤلاء اما يفرون او يبعدون او يُعلن انتحارهم، وكان يُقال في لبنان انهم "انتحروهم". كان العصيان لا يأتي الا من الضباط، من رجال النظام نفسه. أما السياسيون فليسوا هم رجال الحكم وإنما واجهته.

وحده عبد الحليم خدام سجل سابقة بأن قدم مرافعة اعترافات كانت في شقيها، السوري واللبناني، بمثابة وثيقة سياسية وعقائدية انطوت على ادانة خطيرة للنظام الذي كان قد أخرجه من السلطة في 21 تموز الفائت. والواقع ان خدام الذي عرفه اللبنانيون منذ عام 1975 وزيراً للخارجية ثم عام 1984 نائباً للرئيس السوري، كان رأس فريق مكّن الاسد الأب حتى عام 2000 من ان يحكم لبنان 25 عاماً. تباعاً حتى عام 2000 تساقط رجال الفريق الذي ادار الملف اللبناني مذ بدأت "المبادرة السورية" في الحرب اللبنانية في 24 ايار 1975: كان فيه، الى خدام، زهير محسن وحكمت الشهابي وناجي جميل ومحمد الخولي ورفعت الاسد وعلي المدني وعلي دوبا ومحمد ناصيف وبهجت سليمان وابرهيم الحويجي ومحمد غانم وغازي كنعان. كان خدام المدني الوحيد بين ضباط تولوا لعبة "النظام الامني" في لبنان، ونجح بأن جعل معظم السياسيين اللبنانيين حلفاء دمشق في فلك اللعبة الأمنية، مرة أدواتها وأخرى ضحاياها.

ولسنوات طويلة اقتصر الفريق على ثلاثة حتى عام 1998: خدام والشهابي وكنعان الذين ما لبثوا ان انهاروا بدورهم بعد تسلم الاسد الابن الحكم. سقط اولهم حكمت الشهابي باحالته على التقاعد عام 1998، ثم بكفّ يد خدام وانتهاء باقصاء كنعان عام 2002 قبل ان يُطوى نهائياً في 26 نيسان 2005 النفوذ السياسي السوري بالانسحاب الشامل للجيش السوري واستخباراته العسكرية من لبنان.

وتكتسب اعترافات النائب الأول السابق للرئيس السوري جديتها وخطورتها من عدة معطيات:

اولها: انه وضع حداً فاصلاً بين حكم الاسد الاب والاسد الابن، وميّز احدهما عن الاخر في مقاربته الملف اللبناني. على ان تمييزاً كهذا لا يعدو كونه شكلياً حيال ما يتصل بالوضع اللبناني خصوصاً، وان أُبدِلَ رجال بآخرين. ظل الملف اللبناني ملفاً في دمشق، والكماشة الأمنية نفسها، والطبقة السياسية اللبنانية المتعاونة هي هي التي كانت تدير السلطة اللبنانية وكالة عن القرار السوري.

وفي واقع الامر فان آخر رجال الاسد الاب في حكم لبنان كان غازي كنعان الذي استمر سنتين اخريين بعد تسلم الاسد الابن الحكم، واشرف على انتخابات 2000، من غير ان يكون بعيداً عن خدام الذي كان لا يزال في منصبه، وان مجرداً من اي دور في الملف اللبناني. إذذاك شعر خدام ان حكم السياسيين الذي صنعه يحل محله حكم العسكريين الذي يبدأ في لبنان حيث يفترض ان يكون انتهى في سوريا في ضوء التقلبات الاقليمية والدولية، لكن الحصيلة واحدة: سوريا هي التي تحكم لبنان.

ثانيها: ان الرئيس الابن كالرئيس الاب حافظ على توازن قوى بين اجنحة النظام بالنسبة الى المسؤولين السوريين الذين كانوا يقاربون الملف اللبناني من دمشق او من عنجر. كان ثمة سياسيون لبنانيون يتصلون بضباط سوريين ويحجمون عن الاتصال بآخرين. ولذا قيل في لبنان انه كان لكل من خدام والشهابي وناصيف وسليمان وكنعان (حتى بعد انتقاله الى الداخل السوري) رجاله، كما صار لرستم غزالة بدوره رجاله، وصار في السنتين الاخيرتين لكل من ماهر الاسد وآصف شوكت رجاله. وكانت هذه الحال مع رجال الخولي وغانم ورفعت الاسد.

وتالياً عكس الامر دلالة واضحة هي حاجة الرئيس السوري الى آراء متشعبة الوضع في لبنان، وتوزيع ولاءات السياسيين اللبنانيين على الضباط السوريين، والتعامل مع الوضع اللبناني على انه معادلة سياسية: ليس فيها حلفاء دائمون ولا اعداء دائمون، وليس فيها حلفاء واعداء لا يُستغنى عنهم. كان الرئيس الاب يبدو احياناً اقل تصلباً من خدام والشهابي وكنعان، وكان هؤلاء بدورهم يتقاسمون ادوارهم بالطريقة نفسها. وفي الحصيلة كانت آلة المرجعية هي نفسها: يترك الرئيس الاب لرجاله جميعاً ان يجتهدوا في ادارة الملف اللبناني، ولكنه كان يستمد قراره اخيراً مما كان يقوله خدام والشهابي وكنعان. بعد عام 2000 استمد الرئيس الابن قراره مما كان يقوله له كنعان ثم غزالة، بالتزامن مع توليه مباشرة ادارة الملف اللبناني.

ثالثها: ان اعترافات خدام اذ وجهّت ادانة مباشرة الى نظام بلاده حيال الكثير مما عاناه لبنان في الاشهر الاخيرة بدءاً باغتيال الرئيس رفيق الحريري، لا تحجب حقائق السنوات التي سبقتها. في مصادر مسؤولين لبنانيين ان الحويجي هو مَن خطط لاغتيال كمال جنبلاط بعدما سمع مسؤول امني لبناني كبير صيف 1976 من الشهابي في دمشق يقول "سنلاحق كمال جنبلاط الى داخل أقبية المختارة"، وان الخولي هو مَن خطط لاغتيال الرئيس بشير الجميل، وان الاجتماع الذي عقده خدام مع الرئيس رينه معوض قبل ايام من اغتياله كان الأسوأ بالنسبة الى الاخير في حياته السياسية في ضوء ما كان سمعه من محدثه. بل واقع الامر ان خدام الذي قال عام 1981 إن مسيحيي بشير الجميّل (الذين هم في ما بعد مسيحيو سمير جعجع وميشال عون) لا يمثلون اكثر من خمسة في المئة، وصف بعد الغاء الرئيس امين الجميّل اتفاق 17 ايار 1984 انه احسن الرؤساء اللبنانيين بعدما كان تحفظ عن مطالبة وليد جنبلاط ونبيه بري آنذاك بتقصير ولايته بعد "حرب الجبل" و"انتفاضة 6 شباط". وهو الرجل الذي يذكر اللبنانيون انه كان اول مَن فلسف اتفاق الطائف اذ قال بعيد انتخابات 1992 ان بدء مدة السنتين لانسحاب الجيش السوري من لبنان تبدأ بعد الغاء الطائفية السياسية في هذا البلد. وللكثير الذين يذكرون فان في حوزة بعض السياسيين اللبنانيين وثيقة "الاتفاق الثلاثي" بيد خدام الذي صنع انتخابات 1992 و1996، وحكومات الحقبة تلك، وصنع الطبقة السياسية التي انهارت في 14 آذار 2004. كان رجل انتخاب الرئيس الياس الهراوي وأول الداعين الى تمديد ولايته.

مع ذلك كله، فان رجل النظام منذ عام 1970، ورجلاً حكم لبنان في الظل منذ عام 1976، اضاف الكثير من الحقائق التي كان يحتاج اليها اللبنانيون منذ 14 شباط الفائت. وربما كان هؤلاء يأملون لو ان ما ادلى به كان اقرب الى مراجعة الذات منه الى تصفية حساب مع نظام بلاده، وتحدث عن كل ما حدث منذ عام 1978 وما كانت تريده دمشق بدءاً من اولى الحروب السورية في لبنان: "حرب المئة يوم" في الاشرفية.