الدستور/ أبو يزن

صوّت مجلس الشعب السوري إلى جانب اقتراح بشطب كلمة ’’السيد’’ حيثما تقدمت اسم نائب رئيس الجمهورية السابق عبدالحليم خدام في محاضر الجلسة التي عقدها للبحث في ’’افتراءات خدام واتهاماته’’ لسوريا أمس الأول، واعترض نواب عديدون على كلمة للنائب صابر فلحوط، ابن النظام وحرسه القديم وأحد الناطقين الإيديولوجيين باسم البعث، عندما أشار إلى خدام بكنيته المعروفة ’’أبو جمال’’، ولم يهدئ من روع النواب وغضبتهم، سوى تدخل رئيس المجلس الذي أوضح بدوره ’’الزميل فلحوط’’ قصده بذكر أبي جمال للتذكير بالآية الكريمة ’’تبت يدا أبي لهب وتب’’، وكأنه يقول تبت يدا أبي جمال.

وفي الجلسة تبارى المتحدثون في التقليل من شأن نائب رئيس جمهوريتهم، بل أنهم ألصقوا به وحده تهم الفساد والإفساد في الأرض، واعتبروه المسؤول عن الجانب القبيح لتجربة الحرس القديم، وتطوع نقيب المحامين في حلب بتبني اقتراح بشطب عضوية خدام من النقابة، بعد أن أنكر رئيس المجلس على خدام دراسته للحقوق وسخر من تقديم خدام لنفسه بوصفه محاميا، لكن المتحدثين لم ينتبهوا إلى أنهم وهم في معرض إدانة المنشق أبو جمال، كانوا يدينون نظاما بأكلمه، فالرجل لم يكن الفاسد الوحيد، بل ولم يكن الفاسد الأشد جشعا برغم موقعه الرسمي، والرجل لم يكن المتسلط الوحيد، بل لم يكن المتسلط الأشد بطشا وبرغم موقعه أيضا، فجميعنا يعرف تركيبة النظام في طباتها الأمنية والعسكرية، السياسية والحزبية الطائفية والاجتماعية.

من تتبع جلسة مجلس الشعب السوري، والتي كانت مخصصة أساسا للرد على خدام، أدرك تمام الإدراك معنى الحديث الذي أدلى به رجل سوريا الثاني إلى قناة العربية، بل أن مداخلات النواب ورئيسهم بذاتها، جاءت مصداقا لما قاله خدام، وليس تفنيدا لمزاعمه، فقد كنا امام ’’مسرحية سمجة’’ فيها من النفاق والتكاذب ما فيها، وبدا واضحا لكل أعمى وبصير، أن قوى رئيسية نافذة، تقف خلف الستارة في مسرح الدمى المتحركة.

خدام لم يك نبيا ولا وليا صالحا، بل هو ابن النظام البار، ويتحمل اكثر من غيره المسؤولية عن المآلات التي انتهت إليها سوريا، شارك في لعبة السلطة والتسلط والدم والفساد، وأشرك معه أفراد عائلته والمقربين منه، ولن نقبل أبدا بعد ثلاثين أو أربعين عاما من السلطة والتسلط، رواية الرجل عن نفسه ودوره، فلم يكن يوما صوت سوريا ولا ضمير شعبها، بل ظل على الدوام صوت سيده وخادمه. لكن ما يهمنا في هذا المقام، فيض الحقائق التي كشف عنها خدام من ’’داخل المطبخ’’ أو بالأحرى من داخل الحلقة الضيقة للنظام، فهو عرض على مسامعنا الكيفية التي تدير بها سوريا علاقات ’’وحدة المسار وتلازم المصير مع لبنان’’ وهو نمط بائس، متسلط ومهيمن، أمني وفاسد، لطالما أثار إعجاب الكثيرين عندنا في مراحل مختلفة، فطالب بعضهم بـ’’مثلث شامي’’ وطالب آخرون بحذو حذو سوريا وتحالفها مع لبنان المقاوم، وشد آخرون الرحال إلى دمشق في رحلات التضامن والنصرة والتأييد.

ما يهمنا في هذا المقام، ان الرجل نطق بالوقائع التي كانت الإشارة لها من بعيد تكفي لإطلاق عاصفة من الاتهامات بالتخوين والتآمر على ’’عروبة سوريا وثورية نظامها’’، فها هو أحد أبرز أركان النظام، والناطق الفج باسمه لسنوات وعقود، يحكي بالوقائع قصصا وحكايات عن بؤس النظم الأمنية الشمولية المتدثرة بأقدس الشعارات، ها هو خدام يفضح أكذوبة ’’الممانعة’’ ويكشف عن مسلسل التعاون الأمني غير المسبوق مع السي آي إيه، وعن تحالفات حفر الباطن لمن خانتهم الذاكرة، ها هو الرجل يكشف وإن على استحياء، بعضا من وجوه النزعة الطائفية عند النظام في دمشق، عندما تساءل عن السر الكامن وراء نظرة القيادة السورية لوحدة الطائفة السنية في لبنان كخطر على أمن دمشق، من دون أن ترى خطرا مماثلا في توحد بقية الطوائف من شيعة ومسيحيين ودروز... لكأن خدام أراد أن يشير من بعيد إلى البعد الطائفي في استهداف الحريري ومن تحالفوا معه في لبنان وفي سوريا، ومن ضمنهم خدام ذاته.

لم ينطق خدام كفرا، وهو لم يصمت دهرا على أية حال، أبو جمال ردد ما تقوله مختلف القوى الحية في سوريا وما تنذر به مراكز دراسات دولية عدة: الإصلاح في سوريا إلى طريق مسدود طالما ظلت قواعد اللعبة بيد النظام الذي عجز من قبل عن بناء وحدة وطنية وها هو اليوم يخفق في الحفاظ على وحدته.