النهار/ السيد يسين

هل هناك علاقة بين الديموقراطية والثقافة؟ سؤال قديم جديد في الواقع! قديم لأنه صيغت اجابات متعددة ومتباينة له وخصوصا في التراث الزاخر لعلماء الاجتماع والسياسة. فقد ذهب كل من فرانسيس فوكوياما وصموئيل هنتنغتون – على سبيل المثال – الى ان التقاليد الثقافية تتسم بخاصية الثبات على نحو ملحوظ وهي التي تصوغ شكل السلوك السياسي والاقتصادي في مجتمعاتها اليوم.

واتجه فريق آخر ممن ركزوا على نظريات التحديث، ابتداء من كارل ماركس حتى دانيل بل الى ان صعود المجتمع الصناعي من شأنه احداث تحولات ثقافية مترابطة بعيدا عن المنظومات القيمية التقليدية.

ولكن العلاقة بين الديموقراطية والثقافة سؤال جديد ايضا وخصوصا بعدما نشرت نتائج المسح العالمي للقيم الذي اجراه عالم الاجتماع السياسي انجلهارت وطبقه في عديد من الدول على عينات قومية، مما ادى الى ظهور نظريات جديدة تفسر العلاقة بين الديموقراطية والثقافة، في ضوء البحوث الحضارية الميدانية المقارنة.

الديموقراطية وحقوق الانسان

وأياً ما كان الامر، فقد كان انعقاد المؤتمر الدولي الذي نظمه في القاهرة يومي 19 و20 كانون الاول 2005 "المجلس القومي لحقوق الانسان" بالاشتراك مع "هيئة الاونيسكو" وموضوعه "الديموقراطية وحقوق الانسان في العالم العربي" فرصة لطرح الموضوع من جديد وقد كلفت باعداد بحث فيه كان مناسبة مواتية لأن اراجع احدث الابحاث التي عالجته.

والواقع ان علاقة الديموقراطية بالثقافة هي فرع من اصل اكبر، وهو الابعاد الثقافية للنظم السياسية المختلفة. بمعنى ان كل نظام سياسي لا بد ان يفرز ثقافة من نوع معين، تؤثر على قيم المواطنين واتجاهاتهم وسلوكياتهم.

ومن المعروف ان هناك تصنيفات متعددة للنظم السياسية، ويقوم كل تصنيف على اساس يختلف عن باقي التصنيفات. واياً ما كان الامر فأنا اتبنى التصنيف الذي وضعه عالم الاجتماع السياسي الاميركي لويس كوزر والذي صاغ تقسيما ثلاثيا للنظم السياسية يتكون من النظم الشمولية، والنظم السلطوية، والنظم الليبرالية.

وفي النظام الشمولي يتم القضاء نهائيا على منظمات المجتمع المدني، وتلغى حريات التفكير والتعبير، ولا يسمح بالتعددية السياسية، وغالبا ما يتم احتكار السياسة بواسطة حزب واحد. ولعل النظام السوفياتي – قبل سقوط الاتحاد السوفياتي – كان هو النموذج البارز للنظم الشمولية.

وفي هذا المجتمع الشمولي تفرض رقابة لصيقة على كل فرد، ويتم التجسس على حركاتهم وسكناتهم. ولعل الروائي الانكليزي جورج اورويل ابرع من صور بقلمه الموهوب الارهاب المعمم في المجتمع الشمولي حيث "الاخ الاكبر" او الديكتاتور يراقب الناس حتى في بيوتهم، من خلال شاشات تلفزيونية مثبتة في كل مكان، وهو يراقب اللغة التي يتخاطبون بها.

والنظام الشمولي بسماته التي المحنا اليها لا بد ان يفرز ثقافته الخاصة، وهي ثقافة تقوم على فرض الطاعة والخنوع والخوف من السلطة، والانصياع التام لأوامرها. ثقافة لا تسمح بالابداع ولا بالابتكار، وانما تنص على اطاعة توجهات الديكتاتور والحزب السياسي الذي يحكم من خلاله، مهما كانت لا عقلانيتها او فراغها من اي مضمون.

ومن هنا فالانتقال من نظام شمولي الى نظام ليبرالي يحتاج – ليس فقط الى تغييرات دستورية وسياسية جوهرية – وانما على ثورة ثقافية كبرى تنقل المواطن من حالة السلبية والخوف واللامبالاة او بعبارة مختصرة من حالة الاغتراب – التي تعني احساسه بعدم القدرة على السيطرة على مصيره – الى حالة من الايجابية الفعالة، وهذه النقلة الكيفية من شأنها ان تجعل المواطن الذي كان في ظل الشمولية مجرد رقم في قطيع كبير الى فرد له استقلاليته وله شخصيته، وله احساس بكرامته الانسانية، وقدرة على المبادأة، وامكان لا حدود له على الابداع.

والنوع الثاني من انواع النظم السياسية هو النظام السلطوي، وهذا النظام اخف وطأة من النظام الشمولي، الذي يلغي الافراد ومؤسسات المجتمع المدني المستقلة معا.

ففي هذا النظام السلطوي حرية نسبية للافراد ولبعض المؤسسات، ولكن في ظل رقابة مستمرة من اجهزة السلطة، ولعل المجتمع المصري في ظل "ثورة يوليو" الناصرية كان النموذج البارز لهذا المجتمع السلطوي.

وهو مجتمع افرز ثقافته الخاصة التي تتمثل اساسا في الخوف الشديد من السلطة، والعجز عن ابداء الرأي الحر، واللامبالاة السياسية، ومسايرة السلطة في توجهاتها المعلنة، بغير اقتناع حقيقي بها.

وقد ورث النظام السياسي المصري سمات السلطوية منذ قيام "ثورة يوليو" 1952 حتى الآن. صحيح ان هذه الفترة التاريخية الممتدة شهدت عصورا ثلاثة هي عصر جمال عبد الناصر وعصر انور السادات وعصر محمد حسني مبارك، وهناك سمات فارقة بين كل عصر وآخر، الا ان سمات السلطوية والانفراد باتخاذ القرار تكاد تكون متشابهة في هذه العصور جميعا.

ومن هنا يحتاج النظام السياسي المصري في الوقت الراهن الى استراتيجيا متكاملة للتحول الديموقراطي، بمعنى الانتقال من بنيته السلطوية الى البنية الليبرالية.

وهي استراتيجية لو ركزت على بعض التغيرات الدستورية والسياسية فقط، دون ان تضع في اعتبارها اهمية التغيرات المخططة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فان مسيرة التحول الديموقراطي ستتعثر تعثرا شديدا.

مما لا شك فيه ان هناك علاقة بين الديموقراطية والاوضاع الاقتصادية كما اشرنا اكثر من مرة، فشيوع الفقر قد يدفع المواطنين الى قبول الرشاوى الانتخابية فتفسد العملية السياسية ذاتها، وقد تغري الاثرياء من الذين يتسابقون للحصول على مقاعد المجالس النيابية الى اغداق الملايين على الدعاية وعلى الانصار، مما يصيب العملية الانتخابية في مقتل.

كما ان الظروف الاجتماعية، والتي قد تتمثل – على سبيل المثال – في شيوع الامية بمعدلات مرتفعة، قد تؤدي الى عجز الجماهير عن التمييز الرشيد بين البرامج المختلفة للأحزاب السياسية، ويتحول الاختيار بالضرورة من البرامج الى الاشخاص، وبذلك تفقد الممارسة الديموقراطية احد اسسها.

ومن ناحية اخرى لو كانت البلاد تمر بمرحلة تدهور فكري وانحطاط ثقافي والذي قد تكشف عنه سيادة التفكير الخرافي وغياب التفكير العلمي، فان المرشحين الذين يرفعون في الانتخابات شعارات دينية غامضة مثل "الاسلام هو الحل" قد يجدون من يصوت لهم بغير معرفة دقيقة بأفكارهم السياسية الحقيقية.

ولعل صعوبة الانتقال من الثقافة السلطوية التي تقوم على الخوف من السلطة واللامبالاة والاغتراب الى الثقافة الليبرالية، هي التي جعلت تقرير "حالة المستقبل" الذي يصدره "المشروع الالفي" في جامعة الامم المتحدة في طوكيو، يضع مشكلة هذا الانتقال من بين المشكلات الكبرى التي تواجه المجتمع العالمي المعاصر. ذلك ان هذا التقرير العالمي المهم الذي وضع يده على خمس عشرة مشكلة تواجه الانسان الآن، اختار ان يطرح مشكلة سياسية كبرى في شكل سؤال مبناه "هل يمكن ان تنبثق الديموقراطية من السلطوية؟" وصيغة السؤال لا تعني الاستحالة المطلقة، ولكنها تعني الصعوبة البالغة.

ونصل اخيرا الى النظام الليبرالي الذي يعني – في النظرية – ان الدولة لا تتدخل لا في النظام الاقتصادي حيث يسود اقتصاد السوق الحرة، ولا في السياسة بحكم انه يسمح بالتعددية بكل انواعها السياسية والحزبية والثقافية، ومن الطبيعي ان تسود قيم ثقافية اساسية في هذا المجتمع الليبرالي، وهي الفردية والعقلانية وحرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم.

وغني عن البيان ان شرحنا لطبيعة النظم السياسية الاساسية الثلاثة الشمولية والسلطوية والليبرالية، ركز عليها باعتبارها نماذج نقية غير مشوبة غير ان الممارسات الواقعية لهذه النظم قد تضيف سمات اخرى، او تحذف سمات معينة.والدليل على ذلك ان النموذج السلطوي الناصري – على سبيل المثال – كان يعمل في الواقع بناء على رضاء عام من المحكومين، يقوم على اساس ان الدولة الناصرية تتعهد بما وسعها من الجهد بتحقيق العدالة الاجتماعية من خلال سياسات اقتصادية واجتماعية شتى، مثل تحديد الملكية الزراعية، وتوزيع الارض على الفلاحين الفقراء، وصياغة مجموعة من تشريعات التأمينات الاجتماعية، والالتزام بالتشغيل الكامل للخريجين. وذلك كله على اساس الا يعمل الناس بالسياسة الا في اطار الحزب السياسي الواحد للدولة، سواء كان اسمه "الاتحاد القومي" او "الاتحاد الاشتراكي".

ومعنى ذلك ان المجتمع المصري في العصر الناصري لا تنطبق عليه بالضرورة كل سمات المجتمع السلطوي التقليدية، لأن النظام السياسي الناصري كان يتمتع بشرعية جماهيرية لا شك فيها، لأن الجماهير رضيت ان تقايض الحريات السياسية بالعدالة الاجتماعية.

وهناك نموذج آخر يؤكد ملاحظتنا السابقة ويتعلق بالمجتمع الليبرالي الاميركي. فهذا المجتمع بكل سمات الثقافة الليبرالية التي المحنا اليها شهد ازمة كبرى في الخمسينات في الفترة "المكارثية" التي قيدت فيها الحريات السياسية تقييدا شديدا، وخضع المثقفون والسياسيون والفنانون لتحقيقات ارهابية على اساس الاشتباه في علاقتهم بالشيوعية.

غير ان الفترة المكارثية انقضت وكان المظنون انها فترة استثنائية في التاريخ الاميركي، الا ان التاريخ يعيد نفسه بعد احداث 11 ايلول، حيث سنت ادارة الرئيس بوش تشريعات تتيح محاكمة الارهابيين سرا وفي محاكم عسكرية تحكم بعقوبات تصل في بعض الحالات الى الاعدام في غيبة محامين عن المتهمين.

كما ان "قانون الوطنية" الاميركي الذي يدور حوله جدل عنيف هذه الايام، تسبب في تضييق الحريات المدنية والسياسية لجماهير الاميركيين الى حد بعيد، مما ادى في الممارسة الى مخالفة صارخة للقواعد المثالية للثقافة الليبرالية.

وهكذا يمكن القول ان هناك علاقة وثيقة بين طبيعة النظم السياسية وافرازاتها الثقافية، وان كانت هذه العلاقة بالغة التعقيد، وخصوصا في ما يتعلق بالفجوة بين النظرية والتطبيق، وفي ما يخص التحولات التي قد تطرأ على الثقافة لأسباب غير سياسية، او التطورات التي قد تصيب النظم السياسية ذاتها تحت تأثير مطالب الداخل او ضغوط الخارج.