الحياة / ياسين الحاج صالح

يفضل إعلاميون وباحثون وسياسيون غربيون أن يستخدموا كلمة ريجيم لتسمية نظم الحكم العربية، مستبعدين كلمة سيستم. وتفضل النظم ذاتها أن تسمي الدولة فحسب، بينما يسميها معارضوها السلطة أو النظام.

ثمة شحنة تبخيسية في كلمة ريجيم تكاد تحملها كلمة «نظام» العربية، في قولنا النظام السوري والنظام العراقي والنظام المصري إلخ. يتحدثون في الإعلام الغربي غير المنشق عن الريجيم الشيوعي وريجيم بينوشيت والريجيم الفاشي وريجيم صدام...إلخ. لكننا لن نجد أبدا الريجيم الأميركي أو الفرنسي أو ريجيم أرييل شارون. قد نجد الريجيم الفرنسي في فيتنام، لكن ليس في باريس. وقد نجد ريجيم بيتان، لكن ليس ريجيم شيراك أو ميتران أو ديغول.

تلتقي في دالّ ريجيم دلالات القمع والفساد وغياب الحريات، ومعاداة الغرب احتماليا. ومن المتوقع أن نجد في السياقات التي ترد فيها الكلمة كلمات مثل فساد وقمع وانتهاك حقوق الإنسان وطغمة (أو عصبة) وإرهاب.

ليس الاستخدام الغربي للدالّ ريجيم بريئا. كثيرا ما يستخدمه صحافيون غربيون يصادرون على بداهة التطابق بين الغرب والديموقراطية، ويجدون صعوبة بالغة في فهم كيف أن ديموقراطيين عرباً هم معارضون للسياسة الأميركية في المنطقة العربية. يطلق على وسائل الإعلام هذه في الولايات المتحدة إعلام «الإستابليشمنت» أو «الماينستريم»، شيء قريب مما يسمى «الصحافة القومية» في مصر، أي في الواقع إعلام رسمي لا أكثر ولا أقل. الفارق المهم أن الرسمي والناطق باسم النظام واحد في مصر، فيما «الماينستريم» الأميركي مستقل مبدئيا عن توجهات الإدارات الأميركية، لكنه عموما قومي وموال للإجماع.

تستفيد أنظمة الحكم العربية من الالتباس الناجم عن إطلاق كلمة دولة العربية على دلالتين: دلالة الكيان السياسي الاجتماعي التاريخي، ودلالة نظام السلطة والحكم أو مركب أجهزة الحكم. من السهل في ظل هذا الالتباس صرف معنى دولة على أنها نظام الحكم القائم. وبانزلاق إضافي، تغدو الدولة وحدة جهاز الحكم والحاكمين القائمين عليه. وهذا يفتح باب شخصنة الدولة كجهاز حكم، وحتى ككيان، كما في قولهم سورية الأسد.

الحكم السوري يسمي نفسه الدولة بكل بساطة. وكذلك يفعل إيديولوجيون مقرّبون منه. يفضل الطرفان مفهوما غير إشكالي، يحظى بشرعية عالمية، هو مفهوم الدولة، على مفهوم يضفي صفة نسبية، وقدحية، على نظام السلطة القائم، مثل مفهوم النظام. مفهوم الدولة يحجب التنازع السياسي بتحويله النقد المحتمل لنظام الحكم إلى نقد الكيان السياسي التاريخي بحد ذاته. وهو أيضا يطبّع النظام القائم، ويغلق باب تصور وجود نمط آخر للنظام السياسي ضمن الدولة نفسها.

باستخدامهم مفهوم النظام يحاول المعارضون نزع الشرعية عن الطاقم الحاكم، وفصل النظام عن الدولة. النظام السوري الحالي في التداول المعارض شيء مختلف تماما عن الدولة السورية. إنه نظام حزب واحد أو نظام أمني أو فئوي، تقوم إيديولوجيته على مطابقة ذاته مع الدولة. كسر المطابقة هذه هو ما يستهدفه النقد السياسي المعارض. من الممكن أن تكون سورية دولة متعددة الأحزاب، دولة لجميع مواطنيها، دولة مدنية، يقول معارضو النظام. أما خصوم الحكم السوري اللبنانيون فيتأرجحون بين كلمة النظام، وما تنطوي عليه من تمييز بين الحكم السوري والشعب السوري، أو يستخدم بعضهم كلمة سورية ببساطة، لتعزيز سياسات الهوية الخاصة بهم، ولضمان تعبئة فعالة ضد «السوري».

على أن الدال الذي يكاد يكون اسم علم يطلقه معارضون على النظام هو السلطة، بالمفرد وبأل العهد. نقول إن السلطة اعتقلت أو نهبت أو أفسدت...، دون أن نشعر بالحاجة إلى توضيح إضافي. فالسلطة هي أولئك الذين يحكمون مستخدمين قوة الدولة لتحقيق أغراضهم الخاصة، وأولها البقاء الدائم. وقد يبدو مدرك السلطة مخففا عن مدرك النظام (يسمي حكام البلد أنفسهم: السلطة)، لكن بينما يستهدف مدرك النظام كسر التطابق بين طاقم الحكم والدولة، فإن مدرك السلطة يشير إلى تشيّؤ سلطة الدولة أو تجسدها في طاقم الحكم. وفي ذلك ما قد يشير إلى أن السلطة السياسية كفت عن كونها علاقة اجتماعية وتحولت إلى جوهر لصيق بأشخاص معينين أو عائلة معينة أو حزب معين، الأمر الذي ربما يفسر قابليتها للتوريث على خط النسب. يشير التشيؤ كذلك إلى انفصال السلطة عن المجتمع واستقلالها بأمرها، دون أن يكون لهذا نفاذ إليها أو تأثير على ممارستها وقراراتها ومسارها.

الدوال المذكورة ليست محض أدوات سلبية للعمل السياسي والإيديولوجي، بل هي مواضيع للصراع السياسي والإيديولوجي. إنها موضع تجاذب دائم بين فاعلين سياسيين في حقول سياسية تنازعية بطبيعتها ومتداخلة. ليس لنا أن نتوقع براءتها وثبات دلالاتها.

ربما استخدمت كلمة ريجيم في وصف الحكم السوري عام 2005 أكثر مما استخدمت في أي سنوات سابقة. هذا المسعى الإعلامي والبحثي يساير زوال حظوة النظام عند الجهات الغربية المقررة، الأميركية منها بالخصوص. الكلمة تكثّف تحولاً في العلاقات السياسية والمعنوية، فحواه رفع الغطاء عن الحكم السوري وإفراده «كالبعير المعبد».

من جهة أخرى، كان التمييز بين السلطة والدولة أحد التمييزات التي حرص المثقفون السوريون على إبرازها بعد عام 2000. في ذلك محاولة لعقلنة وضبط استخدام دوال سياسية شائعة، لكن المحاولة هذه لم تحظ بالمتابعة والتطوير لغلبة شاغلي التحريض والتعبئة على شاغل التحليل الهادئ. الأهم في التمييز بين دولة وسلطة هو ما ينطوي عليه من نزع الشرعية عن نظام السلطة المؤبدة، وتاليا من تحول في علاقات القوة بين الطرفين، بالقياس إلى ما كانته الحال خلال الربع الأخير من القرن العشرين.

أما كلمة نظام فتماثل كلمة ريجيم. لكن قدمها واستخدامها العريق في التنابذ الإعلامي بين الأنظمة العربية حتّ فعلها النازع للشرعية وفرّغها من الطاقة السياسية الكامنة. إنها كلمة هجاء وتحقير أكثر من أي شيء آخر.

بالإجمال، الدوال توازي السياسات، والمدلولات مشحونة بالسياسة والرسائل السياسية العاطفية. وطاقتها على حمل الرسائل والعاطف تتناسب عكسا مع ضبطها المفهومي. إن المفاهيم المنضطبة أقل صلاحية في الصراعات السياسية والنزاعات الحادة من المدركات الانطباعية والمختلطة.