الاتحاد / باتريك سيل

أن يصبح المرء زعيماً في منطقة مضطربة متلاطمة الأمواج، كما هي حال الشرق الأوسط، فليس ذلك مريحاً ولا مهمة محفوفة بالورود بأي وجه، لما يقتضيه ذلك من ركوب للمصاعب وسير في طرق ومسارات شائكة ووعرة• لكن مع ذلك، فإنك لا ترى من قادة المنطقة وزعمائها من يبدي استعداداً للترجل عن صهوة الجواد والقيادة! بل العكس تماماً، فإنك تراهم أكثر تشبثاً بمناصبهم وأشد تمسكاً بها، وكأن الحياة نفسها لا تساوي شيئاً، إن لم تكن تحيطها فخاخ السلطة ودروبها العصية وخياراتها العصيبة• ومهما يكن، فإن العام الماضي لم يكن عاماً سعيداً لزعماء المنطقة، باستثناء قادة المملكة العربية السعودية وبقية الدول الخليجية الأخرى، التي حققت فيها عائدات النفط أرقاماً قياسية بسبب ارتفاع أسعار السوق العالمية، فبدت هذه البلدان وكأنها تسبح فوق بركة من المال• وقد أتاحت لهم هذه الثروات الطائلة فرصة التطلع والتفكير في مشروعات عملاقة كبيرة، تصب جميعها في اتجاه إعادة تشكيل بلدانهم على خطى الحداثة والتنمية والتقدم•

ولعل أكثر ما يلفت النظر في المشهد الشرق أوسطي الراهن، النحو الذي تشكل به المملكة العربية السعودية وجاراتها من الدول الخليجية الأخرى، مجتمعات التنمية والرفاه والاستقرار والتكنولوجيا المتطورة، بما يبعدها ويعمق الهوة بينها وبين بقية مراكز الاستقطاب التقليدية في المنطقة، متمثلة في القاهرة ودمشق وبغداد، مع العلم بأن كل واحدة من هذه العواصم الأخيرة الثلاث، تكابد وتصارع مشكلات، يبدو أنها عصية على التجاوز والحل في الظرف الراهن على الأقل•

بيد أن الحقيقة التي لابد من تأكيدها هنا، تتلخص في أنه ليس في وسع قادة الدول الخليجية الغنية بالنفط، الاكتفاء بما يتحقق داخلها من عمران وتقدم، وغض الطرف عما يمور به العالم العربي المحيط من مخاطر وتحديات جمة• فالعالم العربي جسد واحد، تشكل هي جزءاً حيوياً لا يتجزأ منه• لذا فإن عليهم أن يفتحوا عيونهم جيداً ويراقبوا عن كثب، السياسات التي تتبعها واشنطن إزاء منطقتهم، وأن يرقبوا مكامن الخطر الذي أضحت تمثله جماعات الإرهاب والتطرف الديني الإسلاموي، وأن يضعوا أيضاً عيونهم على المطامع الإقليمية الإيرانية والتركية، وعلى مأساة تمزق أوصال العراق بسبب الحرب، إلى جانب أهمية متابعتهم لنهم التوسعات الإسرائيلية التي لا تقف عند حد، مع عدم إغفال التوترات المريرة الحادة التي تسمم العلاقات السورية اللبنانية• كما لابد لدائرة الاهتمام أن تذهب بعيداً، لتشمل مراقبة نذر الحرب التي تعلو سماء كل من السودان وتشاد، والنزاع القائم حتى الآن بين المغرب والجزائر حول قضية الصحراء الغربية، وغيرها الكثير من القضايا الإقليمية المتشابكة مع بعضها بعضاً، بحكم تشابك بنيان الجسد الشرق أوسطي الواحد•

أما الانتقاد الرئيسي الذي يوجهه البعض لحكومات هذه الدول الخليجية الغنية بالنفط، فيتلخص في أنها لم توظف ثرواتها وعائداتها المالية الكبيرة بما يكفي، للتصدي لحل مشكلات المنطقة ونزاعاتها الرئيسية• فالواضح أنها آثرت السلامة والبعد والوقوف على هامش ما يجري حولها من نزاعات واضطرابات، تاركة للآخرين -لا سيما الولايات المتحدة الأميركية- تقرير قضايا الحرب والسلام في المنطقة• وبالنسبة للرئيس المصري حسني مبارك، فقد كان ختام العام الماضي، ختاماً عسيراً وعصيباً جداً عليه، ليس أقله تلطيخ صورة بلاده وسمعتها، جراء مقتل ما يزيد على عشرة لاجئين سودانيين في قلب عاصمة بلاده القاهرة، على يد قوات الأمن• كما اختتم العام المصري بإصدار حكم قضائي بالسجن لمدة خمس سنوات مع الأعمال الشاقة، على المعارض الليبرالي أيمن نور، وهو الحكم الذي خدش وجه العلاقات الأميركية-المصرية وأصابها بتوتر كبير، علاوة على ما أثاره من دخان شكوك كثيفة إزاء زعم مصر الاتجاه صوب التحول الديمقراطي! وبين هذا وذاك، شمرت حركة ’’الإخوان المسلمين’’ عن عضلاتها السياسية بفوزها بنسبة 20 في المئة من مجموع الأصوات الانتخابية التي حققتها الجولة الانتخابية التشريعية الأخيرة، على رغم المضايقات التي سببها لها النظام، وعلى رغم اعتقاله للآلاف من أعضائها•

أما في دمشق، فلا يزال الرئيس بشار الأسد يخوض معركة بقاء في ظل تطورات الأزمة المستفحلة بين بلاده ولبنان، منذ حادثة مصرع رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، وما أسفرت عنه من تداعيات وضغوط دولية على دمشق، مشيرة إلى تورطها على نحو أو آخر في تلك الجريمة• وآخر هذه التطورات، ما أدلى به السبت الماضي، نائب الرئيس السوري السابق عبدالحليم خدام -الذي أمضى ما يقارب الأربعة عقود في قلب الأحداث في سوريا- من تصريح لقناة ’’العربية’’ تحدث فيه عن التهديدات الخشنة التي وجهها الرئيس بشار الأسد لرفيق الحريري، فيما لو اعترض الأخير على تمديد فترة رئاسة إميل لحود الموالي لسوريا، إضافة إلى ما قال خدام، من أنه ليس في وسع أي من رجال الأمن السوريين رش الحريري بقطرة دم واحدة، دون موافقة بشار الأسد• ولذلك، فأي ضربة أكبر من هذه للنظام السوري!

وفي إسرائيل فها نحن نتابع مكابدة رئيس وزرائها إرييل شارون مع المرض والسياسة معاً، حتى لحظة خروجه الأخير من حزب ’’الليكود’’ وإنشائه حزب ’’كاديما’’ الجديد، مصحوباً بتصريحاته التي أعرب فيها عن رغبته في تسوية النزاع بين بلاده والفلسطينيين، على الرغم من أن دوافعه ونواياه كلها، لا تزال مثيرة للكثير من الشكوك والتساؤلات على أقل تقدير• ذلك أن شارون إنما يريد ترسيم الحدود النهائية لدولته منفرداً ودون التفاوض مع الطرف الفلسطيني• كما أنه يريد وضع يده على ما يزيد على نسبة 78 في المئة من الأراضي الفلسطينية، علاوة على ما يمثله احتكار السلاح النووي في المنطقة، من أهمية قصوى في استراتيجيته وسياساته، فضلاً عن حصوله المستمر على دعم وتأييد واشنطن• وهذا هو ما دفع الرئيس الإيراني الجديد محمود أحمدي نجاد، إلى سيل من التصريحات غير الدبلوماسية، التي أعلن فيها رغبته في ’’إزالة إسرائيل من خريطة العالم’’• وقد أسهم كل هذا، في صب المزيد من الزيت على نيران المنطقة وتوتراتها الملتهبة أصلاً•
إلى ذلك نكرس تعليقنا الأخير للرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة• فمنذ بداية ولايته الرئاسية الثانية في إبريل من عام ،2004 عمد بوتفليقة إلى تركيز المزيد من السلطات بيده إلى جانب الاعتماد الكلي على أجهزته الأمنية، وخاصة جهاز مكافحة التجسس الجزائري•

وختاماً فإن معطيات المشهد الشرق أوسطي الماثل أمامنا الآن، وبكل ما يحيط به من اضطرابات وقلاقل، لا تبشر بإحراز تحول إقليمي يذكر، باتجاه الديمقراطية وحكم القانون واحترام حقوق الإنسان، خلال العام الحالي •2006