لؤي حسين/السفير

بقليل من الاهتمام وبكثير من الحذر بدأ منذ بعض الوقت بعض كتّاب المقالة السياسية السوريين مقاربة مفهوم الوطنية، لكنهم حرصوا أن يبقوا بعيدين عن ولوج تفاصيل معنى الوطنية السورية تحديداً. ومع ذلك فإن هذا الإقدام الحذر من كتّاب المقالة لم يرافقه مطلقاً أي محاولات نظرية من المفكرين السوريين؛ ربما لندرتهم. وتأتي خطوة جريدة <<السفير>> في فتح هذا الملف فرصة نادرة في لحظة تحتاج فيها سوريا لتأسيس مفهومي يمكنه أن يعين في تكوّنها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الجديد الناجم عن انفكاك الكيان السياسي السوري/اللبناني القسري الذي كان قائماً طيلة ثلاثة عقود حساسة في تاريخ سوريا. ومع أن هذا الملف لا يمكنه أن يؤسس لإنجاز مفهوميّ للقضايا المطروحة فيه، لكن آمل أن يتمكن من إثارة حميّة النخبة الثقافية والسياسية السورية لاستكماله على نطاق أوسع وأعمق.

من وجهة نظري، أرى أن مفهوم الوطنية السورية غائب تماماً عن الثقافة السياسية السورية، لتحل محله مفردة الوطنية التي لا ترتقي غالباً حتى إلى مستوى الكلمة، إذا اعتبرنا أن شرط الكلمة أن يكون لها دور في التواصل والتفاهم بين الأشخاص العاقلين، وأن بعض الكلمات المحورية ترتقي لتكوّن مفاهيم محلية تشكل اختزالا لقضايا ووجهات نظر ومواقف. لكن هذا لا يعني أن مفردة الوطنية ليس لها معنى في المنطوق السوري، بل يعني أن لها معاني منفلتة تصل حد المياعة، عصية على التحديد والضبط. وهذا، أيضا، ليس من ندرة ورودها في الخطاب السياسي السوري، بل على العكس، فهي بوفرة لا تضاهيها بها مفردة أخرى، لكن من دون أن يكون لها أي حضور. وهذا ليس غريباً عن الخطاب السياسي السوري المحمّل بشعارات عصية على الفهم وعاجزة عن الإفهام مثل: <<سوريا لن تركع>> و<<سنواجه التحديات بروح العصر>>، وغيرها من العبارات والمفردات التي تفتقد لأي دلالة وكأنها مجموعة رموز خطية ملمومة بشكل اعتباطي.

حال مفهوم الوطنية السورية هذا في الخطاب السياسي السوري ناجم عن ضحالة الثقافة السياسية السورية، كما أنه دليل عليها. والأمر لا يتعلق فقط بمفهوم الوطنية ومتوقف عنده، بل يتعداه ليطال كامل النسق المفهومي السياسي. فهو حال مفهوم الوطن والحرية والحق والفرد والأمة والقوم والعدو والسلام والدولة، بل هو حال مصطلح السياسة أصلا. وبالتالي يتوجب العمل على كل هذه المفاهيم وسواها، بل ربما هناك أولوية منطقية للعمل على عدة مفاهيم أولية تسبق مفهوم الوطنية، ضمن الترتيب المنطقي، كونه ينبني عليها ويتجه بتوجهاتها، مثل مفهوم الوطن ومفهوم الفرد ومفهوم المجتمع. فالوطن ما زال، في الذهنية السياسية السورية، يتمنع أن يتحدد بالجغرافيا وبالسياسة، وما زالت عبارة الوطن السوري منبوذة وتُعتبر ذات دلالات انفصالية بل وكومبرادورية. والفرد السوري لم يتعد بعد اعتباره رقماً ضمن العديد الجمهري، ممنوع عنه الاستقلال في الاعتقاد أو التفكير خارج بداهات القوم وسلفياته، ولا يرتقي لضآلته (وأحيانا لوضاعته) لأن يكون مكوناً للمجتمع أو للوطن. وعبارة المجتمع السوري لا تتعدى مصطلح الإحصاء العددي للسوريين.

ومع هذا يبقى لمفهوم الوطنية، بل بالأحرى لصفة الوطنية مكانة خاصة في نفوس السياسيين والنخب السورية، إذ يتمسك أغلبهم بصفة الوطني في أي مناقشة أو مصارعة سياسية أو ثقافية في الوقت الذي يتخلى فيه، تحت أبسط الضغوط، عن أي صفة أخرى، حتى لو كانت صفة الإسلامي أو الديموقراطي التي راجت مؤخرا كبنود أساسية في البرامج السياسية الجديدة. والمقصود هنا بالوطنية التي تجهر بها النخب السورية هو المعنى الأكثر رواجاً وميوعة، أي الموقف الضدي والرفضي للخارج الطامع فينا دوماً، حسب اعتباراتها، والذي ترى فيه، لوحده، سبب كل الشرور التي وقعت لنا من قَبْل التاريخ وحتى الآن، بما في ذلك حلول أنظمة الاستبداد في بلداننا. وهذا الخارج، حسب هذه الزاوية من النظر، لا يقتصر على الغرب الأوروبي الاستعماري أو الأميركي، بل يمكن أن يكون شقيقاً جاراً كلبنان بعد انسحاب الجيش السوري من أراضيه. وهذه الوطنية هنا لا تتحدد بالسورية بل بالتهديد الخارجي الذي يصهر كل شيء في البلاد ويسكبه في مفهوم الوطن، ليصبح التراب والسلطة والاستبداد والفساد والإنسان كلها الوطن، فتُستحضر الوطنية هنا دفاعاً عن جميع مكونات الوطن هذه. وهذا المعنى للوطنية في العرف السياسي السوري يضمر معنى خطيراً حين لا يخطر بالبال العمومي أن للآخرين من غير السوريين وطنيتهم الخاصة؛ فمن المثال اللبناني الماثل أمام السوريين في هذه الفترة، نستطيع أن نرى كيف يرفض السوريون اعتبار أن موقف اللبناني من سوريا، مهما كان موقفه، نابع من الوطنية اللبنانية.

ومثلما يتحدد ويتعرّف الوطن، على أنه داخل، بنقيضه أي بالخارج، فإن الوطنية في الفهم السياسي السوري تتحدد وتتعرف هي الأخرى بنقيضها اللاوطني. فالموقف المعارض أو المخالف لجهة سورية بعد نعتها باللاوطنية هو موقف وطني بالضرورة، ضرورة المنطق السياسي السوري. ليترتب على ذلك أن غايات أصحاب هذا الموقف هي الوطنية بحذافيرها. وهذا ما كنا نراه دوماً في التراشق بين أهل السلطة وأهل المعارضة قبل حين من قدوم شعار الديموقراطية إلى أدبياتنا وخطابنا، الذي عاد وتراجع في الأشهر الأخيرة لصالح شعار الوطنية بما تعنيه الآن، حصراً، من مواجهة للأميركيين ومن لفّ لفّهم من الأوربيين وبعض الأطراف اللبنانية في ضغوطاتهم على السلطة السورية على اثر التحقيق بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

فمفردة اللاوطنية لا تقل أهمية ومركزية في الخطاب السياسي والثقافي السوري عن مفردة الوطنية ولو قلّ تردادها عنها، بل هي أكثر أهمية على المستوى المفهومي، فهي حاضرة مضمرة في كل ورود لمفردة الوطنية. وهذه الأخيرة، كما ذكرت أعلاه، تتحدد بنقيضها أو بنفيها. ونفيها، أي اللاوطنية، هو أسبق منها حضوراً وتحققاً وهو الذي يستحضرها. فكل ادعاء أو ذكر للوطنية، من قِبَل طرف ما، لا يَرد مكتفياً بذاته بل يأتي كرد على موقف طرف آخر أو مقايسة على لاوطنيته المتهم بها صراحة أو تضميناً.

ليست السلطة البعثية هي المسؤولة الوحيدة عن تردي الثقافة السياسية السورية، كما اعتدنا استسهال تحليل الأمور، وإن كانت مسؤوليتها تبقى دوماً الأكبر في كل ما يحصل بالبلاد خاصة في تعميم القمع وإرهاب الأفراد واحتكار المؤسسات الثقافية والتعليمية والإعلامية، لكن تبقى على النخبة السياسية والثقافية مسؤولية كبرى في ضحالة الثقافة السياسية، وخاصة في العمل على نقدها وتطويرها.

فحال الثقافة السياسية السورية هذا، ومن خلال انعكاسه السلبي على التفكير والفهم السياسيين، هو العامل الأساس في هزل التشكيلات السياسية وفي محدودية دورها السياسي. ليشكل كل هذا (دون نسيان أو تجاهل حالة القمع العنيف والمسلح التي تمارسها السلطة لحد الآن) عوامل حاسمة في تردي الوعي والنشاط السياسيين في سوريا، وفي ضمور الوطنية السورية لدى السوريين عموماً بمن فيهم الحزبيون محترفو السياسة. والمقصود هنا بالوطنية السورية هو الشعور بالانتماء إلى كيان سياسي محدد، إذ تبقى كلمة الوطنية خاوية المعنى ما لم تتحدد ببعدها القومي وبنسبها إلى قومية ما. والسورية هنا (ضمن مثالنا الذي نعمل عليه) هي التي يجب أن تحدد المعنى المقصود للوطنية بالنسبة للسوريين، وإلا لن نجد معنى لما نقوله. فمفردة الوطنية منفردة ليس لها دلالة اجتماعية أو سياسية، وإحساس السوري بوطنيته هو إحساسه بسوريته. فالوطنية السورية (وأي وطنية أخرى) ليست متشكلة وموجودة بشكل مسبق أو سابق على السوريين الحاليين، وكأنه لا يتوجب عليهم، بعد انفكاكهم عنها قسراً، سوى العودة إليها أو استحضارها من أذهان حَفَظتها من السياسيين، وكأن ما أبعدهم عنها ليس سوى حالة تاريخية عابرة ما إن تزول حتى يعودوا إلى سياقهم التاريخي الطبيعي، وكأن شيئاً لم يكن. وكون الوطنية تتحدد بقيم وعلاقات اجتماعية سياسية وبإحساس بالانتماء إلى وطن سياسي محدد تشكل مجتمعة جوامع لجهات وأطراف اجتماعية سياسية مهيمنة، فهي دوماً بحالة متغيرة، خاصة في التغيرات المرحلية. ومن هنا لا يجوز الأخذ بالقول أن هناك وطنية سورية موجودة (لا بحالة القمع ولا بحالة الكمون) يجب على السوريين سلطة وشعباً ومعارضة (أو حسب صاحب الدعوة) الأخذ بها والعمل على إحيائها، بل على العكس من ذلك تماماً وحصراً، فالوطنية السورية حالة منشودة يتطلب تحققها توافق غالبية سورية تتمتع بإرادة حرة. ليصير حينها هذا التوافق والتعاقد الحر على قيم وعلاقات اجتماعية وسياسية هو ما يمكننا اعتباره الوطنية السورية، وهو ما يتطلب منا احترامه بغض النظر عن موقفنا منه. وبالتالي كما بنفس الوقت لا يحق لجهة ما، مهما بلغت غلبتها العددية أو القسرية أو العنفية، أن تعمم قيمها ومفاهيمها للجوامع الوطنية قسراً على أنها وطنية مقدسة. وبالتأكيد، وبكل تأكيد، ستحتاج أي جهة غالبة لكي تكون أكثرية غالبة أن تكون كثرتها ناجمة عن غلبتها الشرعية.

ومع ذلك، وفي المقابل منه، لا يعني الكفر بوطنية سورية قائمة، ولو كانت تحظى بقبول الغالبية، أنه لاوطنية، بل يعني اعتقاداً بقيم وعلاقات بديلة بغض النظر عن قدرة هذه البدائل على أن تكون موضع إجماع. وإن كان هذا التصور والطرح لا يجيز اعتبار صفة اللاوطني كحكم قيمة على الأفراد أو على مواقفهم، بل هي مجرد شتيمة، فإنه وإن أجاز توصيف الشخص الذي يعتقد بالقيم السائدة ويتبناها بأنه وطني لكن هذا لا يمنحه حقوقاً تفوق حقوق الآخر حتى لو كان هذا الآخر، من وجهة نظر الأول، ليس وطنياً أو <<لاوطنياً>>. ليبقى لكل سوري كامل الحق والحرية أن يعترض على السائد ويعارضه ويعمل على تغييره واستبداله بالأساليب النضالية السلمية، حتى لو كان هذا السائد من صنع <<المعارضة الوطنية>> في لحظة زمنية أخرى لا تكون فيها معارضة.