جوزف سماحة/السفير

الشعور اللبناني، بالمعنى الرديء للكلمة، قد يكون شعر بنوع غامض من الزهو وهو يشاهد عبد الحليم خدام ويستمع إليه. فالرجل، في المخيلة الجماعية، هو المسؤول السوري الفظ، المفوّض، الحاسم، الذي يضع السياسة اللبنانية وفق الحسابات الدقيقة لمصالح النظام السوري، وفق الحسابات الباردة لهذا النظام، وتحالفاته، وتكتيكاته، وقدرته على التأقلم مع خصوصيات البلد الشقيق.

يحتفظ لبنانيون عديدون في ذاكرتهم بروايات عن سياسيين من بلدهم وقفوا في حضرة <<السيد النائب>> يشرحون له عيوب نظامهم، وسوء ادارتهم، وبؤس أقرانهم، وضحالة وزرائهم، واضعين أنفسهم في سياق الاستعداد لخدمة الأهداف القومية للبلدين كما تحددها النخبة الحاكمة في دمشق.

بعض هؤلاء اللبنانيين قد يكونون شعروا بهذا النوع الغامض من الزهو وهم يعاينون انقلاب الادوار. ها هو خدام، وما ادراك من هو خدام، يشرح لهم، من على الشاشة، عيوب نظامه، وسوء ادارته، وبؤس اقرانه، وضحالة وزرائه، واضعا نفسه، موضوعيا، في سياق تلبية حاجات تزعم انها لبنانية صرف من الوضع السوري الداخلي.

لقد كان خدام، في المقابلة الشهيرة، شبيها بصورة السياسيين اللبنانيين الذين اختبرهم. الفارق الوحيد، والجوهري، هو ان الادوار كانت مقلوبة. كانوا يثأرون، بواسطته، من صورتهم التي اخترعها لهم، وفرضها عليهم. كانوا يثأرون، عمليا، من وضاعتهم حيال الرجل القوي في لحظة وضعه ما تبقى له من قوة في خدمتهم.

تختصر المقابلة المآل الذي وصلت إليه سوريا ووصل إليه لبنان ووصلت إليه العلاقات بين البلدين. او، بالاحرى، تختصر الوهم الشائع لدى بعض اللبنانيين حول هذا المآل. فخدام كان يعلن، في العمق، فشل محاولة سورية مديدة لقولبة لبنان، إلا ان المفارقة هي ان هناك من استنتج ان ما نشهده هو اللحظة الاولى في حقبة جديدة ستنتهي بنجاح لبنان في قولبة سوريا. لقد انتقل خدام من كونه مندوب نخبة سورية الى لبنان الى ان يحتل الموقع الموجود في المخيلة فقط، والذي يعتقد ان الامور ستنتهي ب<<مبادرة لبنانية>> في سوريا، وربما ب<<قوات ردع لبنانية في دمشق>>، وب<<اتفاق ثلاثي>>، و<<اتفاق طائف سوري>>، وقوانين انتخابات، وتشكيل حكومات، وتعيين رؤساء.

لقد تسبب خدام في اصابة بعض اللبنانيين، مِمّن هم مستعدون اصلاً لذلك، بتورم في الأنا الوطنية، وبتضخم في الذات المتفوقة على الشقيق.

تلعب المقابلة على وتر شديد الحساسية في العلاقات اللبنانية السورية، والوتر المشار إليه هو ذلك الخاص بالشيزوفرينيا اللبنانية حيال ما يُطلق عليه، بلغة تقطر عنصرية، <<السوري>>. انها شيزوفرينيا العلاقة التي نمت في العقود الاخيرة مع <<العامل السوري>> و<<الجندي السوري>>، اي شيزوفرينيا التشاوف والخسة، تقبل الاضطهاد والاضطهاد. كنا نعرف خدام الجندي، ها نحن نتعرف إلى خدام العامل.

ليس كل اللبنانيين مصابين، بالطبع، بهذا العارض. هناك بينهم من اقام علاقة صحية مع سوريا الوطن والشعب والنظام. هناك من وافق وخالف وقاتل وابتعد واقترب، لكنه فعل ذلك كله مدركا انه يسلك في بيئة واحدة، وانه يصدر عن انتماء صادق، وانه ابن نسيج واحد، وان لا فضل للبعث على عروبته او مناهضته للعدو الخارجي او الاسرائيلي.

ان هذا الصنف من اللبنانيين يدرك الاساءات حيال الشعب اللبناني بصفتها، تماماً، في امتداد اي اساءة للشعب السوري.

لكنه يدرك، ايضا، ان هناك من يريده اداة، ومن يستخدم مطالبه العادلة، من اجل الاقتصاص من سياسات سورية تشكل الحد الادنى الذي يمكن له جمع الشعبين، او توافقهما، في سياق المواجهة المفروضة فرضا على المنطقة.

لنفترض ان الصدفة وحدها ربطت بين مقابلة خدام وطلب لجنة التحقيق الدولية الاستماع الى الرئيس بشار الأسد ووزير خارجيته فاروق الشرع. صدفة في منتهى الغرابة، ولكن نفترض انها حصلت. ماذا يعني هذا التزامن؟ انه يعني انتهاء الوقت المستقطع في ازمة مفتوحة، وهو وقت لم يخل، اصلا، من دماء.

لقد بدا لبعض مرضى <<التفاؤل>> او <<التشاؤم>> ان التحقيق يسير في منحى انحداري، وان التشكيك فيه غلبه، وان التقرير الثاني لديتليف ميليس يوحي بنهاية قريبة، وان التغيير في قمة لجنة سيُضعف عملها، وان القرار 1644 <<باهت>>. ولقد استُحضرت في هذا السياق اطروحة <<الصفقة>>، ووصل البعض الى حد الاعتقاد بأن ظهور خدام هو محاولة فرنسية لتعطيل تفاهم اميركي سوري!

لا صلة لهذه التقديرات بالمعطيات الموضوعية. فهذه المعطيات تشير الى امرين. الاول هو ان النظام السوري (او سياسته) مُستهدَف. الثاني هو ان طلب العدالة اللبناني يندرج، بغض النظر عن النوايا، في هذا الاستهداف، وان دمشق ترد بطريقة قاسية جدا على حصار يُضرب على السلطة فيها.

لقد كانت المعادلة الحاكمة للعلاقات اللبنانية السورية على الشكل التالي: ان استقرار الحكم في كل عاصمة يمر بهزيمة القوى الحاكمة في العاصمة الثانية. انها حالة نزاع. نزاع يصعب الفكاك منه، ويستخدم كل طرف فيه الاسلحة التي يملكها او يحسن استخدامها بشكل تنتفي معه، موقتاً، احتمالات التسوية.

لقد باتت هذه المعادلة، بعد افادة خدام وطلب الاستماع، اشد وضوحاً.

لقد بدا انها، اي المعادلة، تقود الى نتيجتين متعاكستين: زيادة الالتفاف الداخلي حول النظام السوري والتصدع في النسيج الحكومي (والوطني) اللبناني. ومن هنا فإن شهادة خدام تخدم في الاتجاهين معا. فهي تريد الايحاء ان المواجهة انتقلت الى قلب دمشق وان النخبة الحاكمة تتفرق. كما انها تشكل عنصر ضغط على الداخل اللبناني لاستكمال بناء <<بيت الطاعة>> الذي يطلب من <<المعتكفين>> ومؤيديهم الدخول إليه والتزام سقفه والانضباط بشروط الاقامة فيه.

وتتم ترجمة العنوان الثاني بإقدام بعض القوى السياسية على انهاء التمييز بين <<عملاء سوريا>> و<<حلفاء سوريا>>، وتهديد <<الحلفاء>> او <<الاصدقاء>> بمصير <<العملاء>>، وهو الطرد من فردوس الاجماع الوطني! ان هذا هو المعنى الوحيد لمخاطبة <<حزب الله>>، مثلا، بدعوته الى اثبات لبنانيته والقول له <<من ليس معنا فليس ضدنا فحسب، بل هو غير لبناني اصلا>>!

لم يعد مقبولا انعقاد اجماع بين ساحتي 8 آذار و14 آذار. بات المطلوب فرض اجندة <<14 آذار>> كأنها إخراج القيد الذي يثبت فيه المرء مواطنته تمهيدا لحصوله، لاحقا، على <<سجل عدلي>> يسمح له بالمشاركة في الحياة العامة. لقد باتت الموافقة على سلاح المقاومة مشروطة بالترسيم وغيره، كأن المقاومة هي امام احدى مهمتين. الاولى انها تريد انتزاع المزارع بالسلاح من بين ايدي <<14 آذار>> لذلك فهم يطالبونها بصك ملكية. الثانية هي ان المقاومة لا تريد استرجاع ارض وطنية الى السيادة الوطنية بالتضحية والبذل، وانما تريد المزارع من اجل ان تبني فوقها <<جمهورية إسلامية>> تمارس فيها الشعائر غير الزمنية.

ليس مهما ان نعرف ماذا دار في رأس خدام عندما قرر البوح. ولا اهمية استثنائية لمداخلته السطحية في استعراض العلاقات اللبنانية السورية وتطورها، والمسؤوليات عنها، وسبل ادارتها. ولا ضرورة للتوقف كثيرا عند الحل الذي يقول انه يمتلكه للأزمة السورية (الالتصاق بالموقف الرسمي للنظام العربي، التأقلم مع مستجدات السياسة الاميركية)... ليس ما تقدم هو المهم، وليس التأريخ او الفكر السياسي هو الذي سيبقى في الذاكرة.

ان ما سيبقى هو خدام الشاهد في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. أما عندما سينشئ اللبنانيون والسوريون محاكمة تقرأ تاريخ العلاقات المعقدة بين البلدين، فليس مؤكداً ان يكون <<السيد النائب>> سابقاً على مقاعد الشهود.