النهار/محمد كشلي

أود – اولا – ان اقول كلمة صريحة، قد يظن البعض ان تقديمنا للكتاب وتقويمنا الايجابي له، تحصيل حاصل، فالمؤلف مسؤول سوري كبير وله تأثير كبير، ولا بد من محاباته ومدح اقواله، واعتبار كتابه فتحاً جديداً للفكر السياسي العربي، اؤكد لكم بكل صدق وبقراءة موضوعية للكتاب وبمنهجي النقدي والواقعي والمراجعة النقدية الدائمة لتجاربي السياسية منذ حركة القوميين العرب في الخمسينات والستينات الى يومنا هذا مروراً بمراحل عديدة وتجارب فكرية وسياسية كثيرة، بدروسها وعبرها على الصعيد العربي، وعلى الصعيد اللبناني... اؤكد لكم ان الكتاب بمضمونه واسلوبه يعتبر من اهم الكتب التجديدية الحديثة في الفكر السياسي العربي (وسأبين ذلك في سياق هذه المداخلة).

لا اقول ذلك الا التزاماً بمنهجي النقدي والواقعي الذي وصلت اليه بعد تجارب سياسية وفكرية عديدة، وهو يطاول ذاتي قبل ان يطاول غيري... وها اني – الآن – بعد قراءة كتاب عبد الحليم خدام (النظام العربي المعاصر – قراءة الواقع واستشفاف المستقبل) وبالمنهج النقدي الواقعي ذاته اجد فيه تجديداً للفكر السياسي العربي ونهجاً اصلاحياً وديموقراطيا. اقول دون محاباة او مغالاة، لقد قرأت كتاب خدام مرتين، مرة عند صدوره منذ شهور عدة ومرة ثانية قبل ايام من هذه الندوة.

ليس في مقدوري – هنا – في دقائق معدودة أن اناقش الافكار التي طرحها خدام في كتاب عدد صفحاته 317 صفحة، بأسلوب علمي محدد وبأفكار مكثفة وبتحليل وبحث ومراجعة (يقول المؤلف في مقدمة الكتاب: "لقد عزمت بعد تفكير عميق على الكتابة حول مجمل هذه القضايا ليس في اطار سرد الوقائع والاحداث بل عبر دراسة وتحليل الاسباب واستخلاص ما يمكن ان يفيد اجيال هذه الامة وهي تتحسس طريقها نحو المستقبل، آملاً ان اكون قد قدمت مساهمة في تحديد رؤية واختيار الطريق...").

امام هذه الكثافة الفكرية والتحليلية، كل ما سأفعله في هذه المداخلة القصيرة ان اكشف امامكم الجديد الذي أتى به الكاتب على امل ان يناقش في ندوة اوسع واكبر يشارك فيها عدد متنوع من المفكرين السياسيين العرب ومن مختلف البلدان العربية ومن مختلف التجارب السياسية والفكرية العربية، لعلنا نساهم في تعميق افكارنا الجديدة نحو المستقبل، ولتجديد برامجنا السياسية المشتركة لمجابهة التحديات الداخلية والخارجية على الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية...

لقد صقلت التجربة السياسية عبد الحليم خدام بحلوها ومرّها وتركت بصماتها (او على الأصح دروسها وعِبَرها) على كتابه، فاذا هو بعيد عن الرومنسية القومية التي كنا فيها جميعاً، فهو يحدد ويحلل المشكلات والخيبات القومية وأسباب الضعف العربي، والامراض السياسية والمصلحية للحالة القطرية التي استوطنت في اوضاعنا العربية المتخلفة.

يُكثر المؤلف من ترداد أربع كلمات تختصر نهجه في التحليل: الاخطاء، السلبيات، الثغرات، النزاعات الجانبية والعبثية... وهذه ليست مجرد كلمات، انها اسباب التخلف والانكسار والهزائم وهو يركز عليها في تحليله لاسباب ما وصلنا اليه، يضع في مقابلها كلمات اخرى وهي: الرقابة والمشاركة الشعبية، الديموقراطية والاصلاح، والمصالح العربية المشتركة ضمن مفهوم التضامن العربي...

وهذه – ايضاً - ليست مجرد كلمات انها حلول على ارض الواقع العربي نفسه، وما يتطلبه ذلك من تطوير وتغيير في اساليب العمل السياسي في كل قطر عربي، وعلى صعيد النظام العربي بمجمله.

وهكذا يمتلىء الكتاب بخطاب فكري تحليلي ونقدي يقرأ الواقع العربي – كما هو – أي بالحال التي وصلنا اليها، ويستشرف من قراءة الواقع رؤية لبناء المستقبل سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. انه خطاب يبدأ من الواقع بكل عيوبه وثغراته ونواقصه، يحلل، يشير بوضوح الى الاسباب، لا يقول افكاراً فوق الواقع ولا يقفز عن المشكلات، بل يبحث ويحلل ويستخرج من التحليل الحلول المناسبة للمستقبل القريب قبل البعيد... ولعل الفقرة التالية من الكتاب تؤكد ما أقوله وهي عن "الديموقراطية": "يرى البعض في الوطن العربي ان الديموقراطية لا تتماشى مع المجتمع العربي المحكوم بموروثاته التي نشأت خلال قرون في ظل الظلم والاستبداد وما ولّداه من خوف وقلق وانغلاق.

ويرى البعض الآخر ان بعض الاقطار العربية لا تلائمها الديموقراطية بسبب تكوينها الاجتماعي سواء القبلي والعشائري او العرقي والطائفي لأن الديموقراطية تساعد على إثارة كل هذه الامراض. ويتساءل اصحاب هذا الرأي كيف يمكن أن يقوم نظام انتخابي في مجتمع اساسه القبيلة؟ والحقيقة هي اننا اذا امعنا النظر في واقع العرب وجدنا ان الديموقراطية هي السبيل الأكثر امناً وسلامة للحفاظ على الوحدة الوطنية في كل قطر عربي لانها تتيح مشاركة الجميع في العمل العام كما انها بطبيعتها تملك آليات تصحيح اخطائها...

ان الديموقراطية ببساطة هي الاطار الذي يتيح للشعب ان يمارس دوره بحرية في تقرير مصيره وشؤونه، وفي مراقبة السلطة ومساءلتها، ويتيح للناس ممارسة حرياتها الاساسية في التفكير والتعبير والمشاركة في الحدود التي لا تتعارض مع امن المجتمع واستقراره ووحدته الوطنية...

والديموقراطية ليست نظاما جاهزا للاستخدام ينقل عن هذه الدولة الى تلك، بل هي مرتبطة بالظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومرحلة التطور في كل دولة، ولذلك نجد في البلدان الآخذة بالنهج الديموقراطي اشكالا مختلفة من التطبيق على ان القاعدة تظل في الاختيار الحر لمجالس التمثيل الشعبي.

ومع ذلك فان الديموقراطية بمفهومها النظري المطلق ليست قائمة في أي بلد، وإن حرية الاختيار لا ترتبط بالضغط الحكومي او ضغط المال او العائلة والعشيرة والطائفة فقط، وانما ايضا بدور الاعلام في تشكيل الرأي العام لدى المواطن. ويبقى الاعلام اقوى قوة مؤثرة في العملية الانتخابية في كثير من البلدان.

ان حاجة العرب الى الديموقراطية عظيمة بقدر حاجتهم الى النهضة ولا يمكن للأمة ان تنهض وهي مغيبة وقدراتها معطلة وحريتها مقيدة، فالحرية هي التي تطلق القدرات التي اذا وظفت لمصلحة الامة تصبح قادرة على تحقيق طموحاتها وطموحات ابنائها".

اذن هذا الكتاب على غير العادة المعروفة في كتابة المذكرات السياسية، هو كتاب عن المستقبل فيه من المراجعة الكثير، وفيه من خلال – هذه المراجعة – تطلع الى المستقبل وهذا "التطلع الى المستقبل" هو ضمن ما يسمى المصطلحات السياسية عن الثوابت والمبادىء، وهي في عموميتها احيانا لا تغني ولا تسمن من جوع في الفكر السياسي، فالثوابت والمبادىء على ضرورة الالتزام العام بها، لا تعني الجمود ولا التحجر ولا التبرير، انما تعني الاستفادة بالمراجعة النقدية للتجارب التي مررنا بها جميعا والربط بين الممارسة السياسية اليومية وبينها، واعتماد العقلانية والواقعية السياسية والاعتراف بالمشكلات القائمة، وبالنواقص والثغرات والخلل، كأساليب للعمل السياسي الفعال والمثمر الذي يذهب على الواقع نفسه، فلا يحلق فوقه، بل يحفر فيه حفرا مستمرا بناء، وليس هناك بناء وتغيير واصلاح بدون اخطاء، ولكن المهم ان نربط دائما بين الثوابت – المبادىء والعمل السياسي اليومي، او بين الاستراتيجية والتكتيك.

وبما ان التكتيك هو الواقعية السياسية بمضمونها التغييري المتقدم لا بحرفيتها اللفظية كاستسلام للواقع، هو الممارسة السياسية اليوم حسب الامكانات وتوازن القوى والمتغيرات والظروف العالمية (قد تبدو هذه "الواقعية" مناقضة للثوابت – المبادىء، ولكنه تناقض ظاهري، لا يفهمه اصحاب الفكر الجامد والمتحجر او العقائدية الجامدة ولكنه في المضمون لا تناقض بل تطبيق عملي ويومي للافكار على الواقع لاصلاحه وتغييره...) هنا ساحة التجديد في الفكر السياسي العربي المأزوم الآن، وهنا في هذه الساحة والمسافة الواسعة بين المبادىء والممارسة اليومية يكمن الحوار الفكري السياسي العربي المطلوب في هذه المرحلة الصعبة التي تمر بها الامة...

وكتاب عبد الحليم خدام يجول ويصول – او على الاصح وبدقة شديدة – يبحث ويحلل ويستخلص – على حد تعبيره – ما يفيد الاجيال الجديدة...

ان خدام يقول – هذا ما نقله عنه الصحافي جهاد الخازن في جريدة الحياة عندما قابله اخيرا "إن الخطاب القومي العربي لا يزال يعيش في اجواء الخمسينات وانه لم يقوّم نفسه او يغير ممارسته..." وها هو ابو جمال نفسه يقدم كتابه الجديد ليقوم هذا الخطاب بالبحث والتحليل وليحدد ما هو المطلوب لتغييره...