هشام نفاع

إزاء الحلبة السياسية الإسرائيلية التي يتواصل فيها انتقال كبار السياسيين من ماخور إلي ماخور في أبهي مشاهد بيع الجسد، يجب قول بضع كلمات تتجاوز ما يزكم الأنوف من أكشين وبريق، ومن ثرثرات تنطفئ كالزّبد الذي لا يلبث أن يذهب جفاءً في كلّ لحظة.

فها هو حزب الليكود اليميني الذي حكم إسرائيل ثلاثة عقود من الزمن العسكري الأصفر يتمزّق وبئس المصير. لم يكن ذلك بسبب صاعقة أو اختلال مناخيّ، ولا بفعل ملائكة أو شياطين السماء، ولا الأرض. ليس الأمر نابعًا، بطبيعة الحال، من لحظة إشراق اجتاح فيها شيء من أخلاق دهاليز الليكود الملطـّخة بالتطرّف والعنف السياسي والعسكري، فجعل بعضَ أهله يفطن إلي وجوب ترك مجاريرهم الآسنة، إراديًّا.. لا، فالتقدّم إلي الأمام ضمن الحزب/ المسخ الجديد الذي يحمل نفس الإسم بزعامة أرييل شارون، يعكس اضطرار هذا الأخير إلي الانزياح، ولو شكليًا، عن الأساطير القديمة المهترئة التي عرف قباطنة الاستعلاء الاسرائيليون كيف يصوغونها بخبث مادة شبه كيماوية لغسل أدمغة مجتمعهم، وإحكام سيطرتهم. قرار الجنرال الفرار الي ما يبدو كأنه المركز السياسي لم يأتِ لأنه استوعب الدرس الأخلاقي من جرائره، بل لأنه بات (مكرهًا) يقرّ بحدود القوّة، مهما بلغت شراستها، وتواضع الحيلة بأيدي متحدّيها.

كما تدور الدوائر ، عصفت دوّامة الليكود نفسه به نفسه فتشابكت حبال المأزق: مواصلة رفض استيعاب وجوب احترام حق الشعب الآخر اصطدمت بإرادة الحرية لدي المستضعفين الفلسطينيين فحطّمت الدعوة المغرورة القائلة بـ دعوا الجيش ينتصر علي المتمرّدين، ثم خنقت المزيد من مئات ألوف الاسرائيليين في مستنقعات الفقر والضائقة. دائرة سببية كاملة تفاقمت فيها هذه الدوّامة التي حاول متعجرفو إسرائيل مرارًا كسرها عبر كسر روح التحرّر الفلسطينية، دون جدوي. وها هو معظمهم الآن يختار الهرب إلي الأمام مع شارون.
فإسرائيل الرسمية التي حوّلها قباطنتها (خيرة أبنائها!) إلي مافيا اغتيالات وقتل ودمار وسلب ونهب، لم تتردّد في اقتراف صنوف جرائم الحرب كافة ضد الشعب الفلسطيني، ولم تتورّع عن الإقدام علي أدنأ أشكال إرهاب الدولة، لكن عنجهيّة حكـّامها ونخبها كلها لم تفلح في كسر إرادة شعب لا يملك سوي الرهان علي حريـّته.

نشرات الأخبار تعجّ بالكشوفات، والتعليقات، والتحليلات، والتنبّؤات، وكذلك السخافات. لكن لا يوجد شيء في العالم في إمكانه إخفاء الحقيقة التي يحاولون طمسها وهي أن الشعب الفلسطيني قد كسّر بصموده الملحميّ جنرالات الأسطورة الإسرائيلية الرسمية البغيضة كافة وأرسلهم عراة الأقفية إلي عارهم، رغم بنادقهم وقاذفاتهم الجوية والبرية والبحرية كلها.

والآن، خلف موضة التمركز السياسي تتواصل حياكة مشاريع ومخططات تكريس هيمنة الاحتلال والاستيطان، بأساليب خفيّة أكثر دهاء وخطورة تحت مختلف المسمّيات: جدار بذريعة الأمن يبتلع سفوح الضفة، وكتل استيطانية باسم الديموغرافيا تبتلع القدس ( عروس عروبتكم.. !)، ومحاولة لملمة إجماع يختزل القضية الفلسطينية في سلسلة ترتيبات أمنية لانهائية. كل هذا تحت يافطة جنوح اسرائيل الرسمية الي تسوية . وهنا يجب التحذير: فهذه المحاولات لم تنتهِ في كل مرة سوي بالإنفجار في وجوه الإجماع القومي الإسرائيلي البليدة.. وهي ستظلّ تنفجر في وجه كل من يتآمر بها علي الشعب الفلسطيني الذي يدرك أنه لم يعد لديه ما يخسره سوي أغلاله. وعلي الكثيرين (بينهم زعامات عربية تراهن علانية علي جنرال صبرا وشاتيلا) أن يتذكّروا أن الشعب الفلسطيني قد سجّل بحروف من نور أسماء عشرات آلاف الشهداء وما يفوقهم من الجرحي والمشرّدين من بيوت هُدمت وحوارٍ قـُصفت، وملايين المقموعين يوميًا بسبب آلة (جرائم) الحرب الإسرائيلية، لكنه رغم ذلك لم يستسلم! بل صاغ المعادلة المستحيلة حين شرّدوه واحتلـّوه وخنقوا شمسه (وغدره معظم زعامات ذوي القربي!)، واستطاع أن يصمد في وجه واحدة من أبشع الترسانات العسكرية في العصر الحديث.

إن الحقيقة السّاطعة هي أن الصمود الفلسطيني الباسل قد مزّق إحدي أقوي قلاع الهيمنة الاسرائيلية المتمثـّلة بليكود أرييل شارون، فتطايرت صخورها ولم تترك بقعة إلاّ وطاولتها.

فالشعب الذي عرفت يداه كيف تزرع الزيتون الذي يعمـّر ويراقب من علياء عراقته جنازات سياسات المتغطرسين الجنازة تتلو الجنازة، هو شعب عرف كيف يخمـّر مأساته ويعتـّق لياليه الحالكة كي ينحتها ملحمة في معني الإصرار والصمود وعشق الحريّة.. شعب يكاد يكون أعزل من كل شيء (سوي من الحق)، استطاع مرة أخري أن يمزّق وهمًا جديدًا من الهيمنة الإسرائيلية المتغطرسة إرْبًا إرْبًا، وإن بعد حين من المعاناة التي لم تنتهِ بعد، لكن سيظل غروبها قريبًا لناظره..